تستعد الصين، وهي أكبر مستورد للنفط في العالم، لإطلاق عقود نفط خام مستقبلية مقوّمة باليوان، وقابلة للتحويل إلى ذهب. وقد ارتأينا التوقف أمام هذا الموضوع لما يحمله من دلالات كثيرة ليس على مستقبل الاقتصاد العالمي فحسب، بل الاقتصاد العربي أيضاً، بخاصة الدول الخليجية المصدرة للنفط. كما أن له علاقة بما سبق أن دعونا إليه من ضرورة وجود مبادرات مماثلة مثل تأسيس بورصات خليجية وعربية للنفط وتعزيز دور الدينار العربي الحسابي التابع لصندوق النقد العربي في المعاملات التجارية والاستثمارية العربية.
إن الخطوة الصينية في حال تحققها ستساهم من دون شك في خلق مؤشر آسيوي لأسعار النفط المستقبلية يسمح لمصدري النفط بتجاوز المعايير التي تفرضها المؤشرات المقومة بالدولار عن طريق التداول باليوان، بخاصة أن عقود النفط الصينية ستكون متاحة أمام صناديق الاستثمار الأجنبي وبيوت التجارة وشركات النفط، ومدرجة على بورصة شنغهاي الدولية للطاقة. وقد بدأت البورصة في تدريب المستخدمين المحتملين، وتقوم باختبارات نظم التشغيل الفعلي بعد الاستعدادات الفنية النهائية التي جرت خلال حزيران (يونيو) وتموز (يوليو) الماضيين.
كما أن خطوة الصين هذه تسعى إلى استثمار خطوة اعتماد اليوان كعملة عالمية إلى جانب الدولار والين الياباني والجنية الإسترليني واليورو من قبل صندوق النقد الدولي في تشرين الأول (أكتوبر) 2016.
وقبلها سعت الصين الى جعل اليوان عملة دولية يمكن من خلالها إجراء التبادلات التجارية وتسهيل التجارة البينية مع دول العالم اعتماداً على توفير منصات مباشرة تربط بين اليوان الصيني وعملة الدولة، التي يتم التداول بها مباشرة من دون وجود عملة وسيطة كالدولار.
وسعياً منها إلى رفع قيمة اليوان والحفاظ على استقراره كعملة دولية، رفعت الصين أحتياطاتها من الذهب لتتجاوز 4000 طن خلال حزيران الماضي، وهذا يضعها في المركز الثاني عالمياً من جهة احتياطات الذهب بعد الولايات المتحدة. كما أن إصدار العقود النفطية المستقبلية المقوّمة باليوان والقابلة للتحويل إلى ذهب يجعلها أكثر جاذبية، بخاصة أن الصين عملت سنوات على إطلاق عقد نفط آجل مقوّم باليوان، لكنها فشلت في ذلك بسبب التأجيلات المتعددة وتخوّف المستثمرين من عملة اليوان.
كما أنها آلية ستجذب منتجي البترول الذين يفضلون تجنب استخدام الدولار، ولكنهم في الوقت ذاته غير مستعدين بعد لقبول اليوان لسداد مبيعاتهم النفطية للصين. فالعملية ستكون مثابة تحويل ثرواتهم من الذهب الأسود إلى الذهب الأصفر، وبالتالي، فهي خطوة إستراتيجية للتبادل النفطي بالذهب، بدلاً من الدولارات، والتي يمكن طباعتها في الخزانة الأميركية بسهولة.
لكن البعد الإستراتيجي للخطة الصينية يتمثل في موضوع النفط. فمعروف أن الصين هي أكبر مستورد للنفط في العالم بنحو 8.8 مليون برميل يومياً. ويعتبر النفط عصب الاقتصاد والنمو الصيني. لذلك، فإن الخطوة الصينية تعتبر إستراتيجية لتأمين إمدادات النفط على المدى البعيد وكذلك بناء احتياطات نفطية إستراتيجية وفقاً لأسعار النفط الراهنة مقوّمة بعملتها المحلية وليس الدولار، حيث تستغل الفرصة التي يتيحها التراجع الحالي في أسعار النفط. وفي الوقت الراهن، تعمل الصين على بناء مزيد من المنشآت لتخزين مزيد من النفط الخام الذي تستورده.
لكننا نتفق أيضاً مع ما يذهب إليه بعض الخبراء من عدم التهويل بهذه الخطوة واعتبارها بداية لانتهاء عصر الدولار في أسواق النفط. ففي الحقيقة، تظل أسواق النفط العالمية كبيرة جداً وهي حساسة وإستراتيجية للعالم الصناعي بحيث من الصعب أن يتم التحكم فيها من قبل دولة واحدة في العالم. كما أن تأثير هذه الخطوة في تسعير النفط سيكون مرتبطاً أولاً بالحصة التي ستحصل عليها عقود النفط المستقبلية المقوّمة باليوان مقارنة بالقيمة الكلية لعقود النفط الآجلة والمستقبلية. إذ لا يمكن إنكار المضاربات في هذه العقود على الأسعار الراهنة للنفط، فهذا قد ثبت بالتأكيد خلال السنوات الماضية. لكن في الوقت ذاته نرى من المنطقي أن يتم إنشاء سعر قياس للنفط في آسيا، وفي الصين بالذات، لأن المناطق الأخرى في العالم لها نفوطها القياسية.
لكن الحجم الأكبر من العقود سيظل مقوّماً بالدولار. وفي حال وجود أي فروق سعرية سواء في العملات أو أسعار النفط، فإن التجار سيستفيدون منها لتحقيق أرباح إضافية حتى تختفي هذه الفروق، ما يؤكد أن هذه السوق لن تكون سوقاً مستقلة عن الدولار وأسعار النفط المقوّمة بالدولار. كما أننا نتفق مع ما ذهب إليه الخبراء النفطيون بعدم دقة القول إن عدم استخدام الدولار لتسعير النفط في هذه السوق هو محاولة للالتفاف على العقوبات الاقتصادية، التي تفرضها الولايات المتحدة على الدول المختلفة، بخاصة روسيا وإيران، لأن العقوبات مفروضة على المصارف وخدماتها لا على الدولار.
أخيراً، نجدد دعوتنا إلى تأسيس بورصة نفط خليجية عربية موحدة قادرة على فرض وجودها وتأثيرها في الساحة العالمية، ومنافسة أسواق النفط في لندن ونيويورك وسنغافورة شرط أن يتزامن ذلك مع وضع آلية تسعير نفطية من قبل الدول العربية والخليجية المصدرة للنفط ذاتها منفصلة عن آلية التسعير الحالية، بخاصة أن هذه الدولة تتمتع بالكثير من المزايا تجعلها قادرة على تحقيق المنافسة والحفاظ على ثرواتها من النفط والغاز في ظل استمرار المضاربات واتساع تأثيراتها السلبية في اقتصادات الدول المنتجة. كما أن هذه الدول تتمتع بثقل دولي تبعاً لمركزها المهم لدى أسواق الطاقة العالمية، وتستحوذ دوراً على خارطة التفاعلات المالية والتجارية على مستوى العالم.
نقلا عن الحياة