شهد العالم المتقدم ثورة مهمة في المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية خلال القرن العشرين، خصوصاً بعد أزمة الكساد العظيم التي نشبت عام 1929. ومن أهم هذه المفاهيم ما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية لمجتمع الأعمال تجاه بقية أفراد المجتمع.
ويتركز هذا المفهوم على الدور الذي تؤديه مؤسسات الأعمال في تقديم الدعم والعون إلى الفقراء والمعوزين في العديد من المجالات الحياتية مثل الرعاية الصحية والتعليم والعون المباشر.
قد تقوم هذه المؤسسات ببناء مدارس أو مستشفيات أو دور للرعاية أو حدائق عامة أو تخصص أموالاً من خلال صناديق لدعم طلاب متميزين في جامعات مرموقة، ويمكن أن يتوافر تمويل التعليم من خلال مؤسسات خيرية متنوعة.
وبرزت عائلات ثرية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وعدد آخر من البلدان الصناعية المتطورة وساهمت في تبني المشاريع التعليمية والصحية وغيرها، وأسست مؤسسات على غرار مؤسسات «فورد» و»فولبرايت» و»روكفلر» و»كارنيغي» و»غايتس».
ويمتد نشاط هذه المؤسسات الخيرية داخل بلدانها وخارجها، ويتخصص بعض منها في مجالات محددة مثل القضاء على أمراض أو أوبئة أو نشر التعليم والقضاء على الأمية أو تعميم المعرفة. وهناك مؤسسات تخصصت في تقديم الدعم المالي إلى معاهد البحوث والجامعات ذات الباع في التطوير والإبداع.
وأصبحت هذه المؤسسات التي تعمل في مجال المسؤوليات الاجتماعية والإنسانية جزءاً مهماً من المنظومة المؤسسية العالمية المتخصصة في الارتقاء بحياة البشر وتعزيز كفاءة الحياة في مختلف البلدان.
وتوسع دور هذه المؤسسات فأصبحت تقدم الدعم للعاملين في مجال حماية البيئة والترويج للسلوكيات التي تحمي البيئة الطبيعية من الاعتداءات البشرية، وكذلك لحماية البيئة من المخلفات البشرية والحيوانية والصناعية بما يقي البشر والحيوان والنبات الأخطار التي تؤثر في استمرار الحياة.
بيد أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للأعمال الذي تطور على مدى سنوات القرن الماضي واجه انتقادات من قبل سياسيين ونقابات عمالية وباحثين اجتماعيين اعتبروا هذا المفهوم وسيلة لتشريع النظام الرأسمالي وتمكين رجال الأعمال من جني الأموال من خلال أرباح أعمالهم وبذل مبالغ محدودة، من خلال مفهوم المسؤولية الاجتماعية، على مشاريع خيرية محددة من دون أن تتأثر ثرواتهم في شكل مهم ولذلك لن تتغير عمليات توزيع الثروة في المجتمعات الرأسمالية بما يعزز العدالة الاجتماعية.
تقدم الأنظمة الضريبية في الدول المتقدمة حوافز للمؤسسات ورجال الأعمال لتخصيص نسبة من أرباح أعمالهم للمشاريع الخيرية وتُحسَم المخصصات من الأرباح عند احتساب الضريبة.
وربما تدفع هذه الحوافز الضريبية المؤسسات إلى تقديم الأموال من خلال آليات المسؤولية الاجتماعية، لكن هناك شعور بأهمية الارتقاء بحياة الآخرين الذي يتباين بين مؤسسة وأخرى وفق قيم مالكيها أو المسؤولين عن إدارتها ومفاهيمهم.
لم تتطور هذه المفاهيم في البلدان العربية في شكل واسع على رغم الأموال الطائلة التي توافرت للعاملين في التجارة أو الخدمات أو الصناعات التحويلية وغيرها خلال العقود الماضية وبعدما تمتع كثير من هذه البلدان بنتائج الثروة النفطية، سواء في شكل مباشر أو غير مباشر.
ربما يعود الأمر إلى شعور مجتمع الأعمال بأن الدولة باتت مسؤولة عن تقديم كل صنوف الرعاية التعليمية والصحية وحماية المتقاعدين وأصحاب الدخول المحدودة، أي أن الدور الرعوي والاقتصاد الريعي الذي عم مختلف البلدان العربية وعطل دور القطاع الخاص أيضاً قيم المسؤولية الاجتماعية المستحقة.
غني عن البيان أن بلدان الخليج شهدت تخصيص العديد من الجهات والمؤسسات الخيرية دعماً للمحتاجين داخل هذه البلدان أو خارجها، سواء في البلدان العربية أو البلدان الإسلامية الأخرى في آسيا أو أفريقيا.
لكن أعمال هذه المؤسسات اقتصرت على بناء المساجد وحفر الآبار في البلدان الفقيرة وأحياناً تأمين منح دراسية للطلاب الفقراء أو إنشاء عيادات صحية.
ومن أهم المبادرات في هذا الصدد مبادرة الشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير الكويت الراحل، عندما كان ولياً للعهد ورئيساً للوزراء عام 1976، إذ شجع الشركات المساهمة على تخصيص خمسة في المئة من الأرباح السنوية الصافية إلى مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (خفضت الآن إلى واحد في المئة)، كي تمول الدراسات والبحوث العلمية.
وتأسست خلال السنوات الماضية مؤسسات عدة في السعودية والإمارات وقطر لدعم هذه النشاطات الخيرية والتعليمية والعلمية.
ويؤكد ركن الزكاة في الدين الإسلامي المسؤولية الاجتماعية وهو يهدف إلى توسيع رعاية الأثرياء للفقراء بما يعزز الحياة الكريمة للجميع.
وبتطور الحياة الإنسانية والتحولات الاقتصادية، اعتمدت آليات وأدوات الضرائب لتأمين الأموال للحكومات لتمكينها من أداء دورها في تقديم مختلف الخدمات والدعم للمواطنين.
والضرائب متنوعة منها ما يطاول أرباح الشركات السنوية ومنها الأرباح الرأسمالية المتحققة من بيع الأصول العينية والمالية وكذلك الضرائب على الدخول الفردية والعائلية، ناهيك عن الضرائب على مبيعات السلع والخدمات، أو المكوس على السلع والبضائع المستوردة من الخارج. وتعود الأموال المحققة من الضرائب إلى الخزينة العامة ومنها تنفق الحكومات على التزاماتها المتعددة.
لكن دور مؤسسات الأعمال يظل مهماً في شكل مباشر من خلال آليات المسؤولية الاجتماعية، وعند طرح هذا الموضوع في بلدان الخليج أو بقية البلدان العربية، لا بد من أن نشير إلى تواضع حصيلة الضرائب المحققة من مجتمع الأعمال، ولذلك يصبح من الطبيعي حفز المؤسسات على تحمل هذه المسؤولية وتأمين الأموال في مجالات أساسية متنوعة.
يطرح البعض مسألة تواضع ثقافة الالتزام في المجتمعات العربية بعدما تولت الحكومات تحمل هذه المسؤوليات لسنوات وعقود طويلة، لكن يؤمل أن نستفيد من تجارب الآخرين ونشجع تبني هذه القيم البناءة.
نقلا عن الحياة