مع إعلان الميزانية العامة للعام المالي الحالي صدرت قرارات برفع أسعار الطاقة للوقود والكهرباء والغاز اللقيم للصناعة ومن المعروف عالميًا أن أحد الأدوات الرئيسة التي تستخدم لترشيد ورفع كفاءة الاستهلاك للطاقة عمومًا هو رفع أسعارها لكنها بالتأكيد ليست الوسيلة الوحيدة لمعالجة الهدر والترشيد بالاستهلاك، إِذ لا بد من برامج تعمل معها وتتبعها كخطوات مكملة.
وقد جاء تأسيس مركز كفاءة الطاقة قبل نحو سبعة أعوام ليعالج هذا الهدر من خلال سياسات ترشيد ورفع كفاءة الاستهلاك وقد عمل المركز على برامج عديدة توجت بوضع مواصفات ملزمة لأجهزة التكييف والأدوات الكهربائية وكذلك الزامية العزل الحراري للمباني الجديدة وكذلك الاتفاق مع الشركات الصناعية بالقطاعات الأكثر استهلاكًا للطاقة البتروكيماويات والأسمنت وآخرها كان تغيير مواصفات استهلاك محركات المركبات الذي سيبدأ من هذا العام بخطوات عملية استبقها قبل أشهر باستخدام إجراءات كبطاقة الوقود للمركبة تبين حجم استهلاكها فحاليًا يبلغ 12كم لكل لتر ويهدف البرنامج الذي وقعت اتفاقياته بين هيئة المواصفات والمقاييس مع الشركات المصنعة للسيارات أن يصل الاستهلاك إلى 19 كم لكل لتر بعد نحو 9 أعوام بتدرج ليكون الاستهلاك موازيًا لدول أوروبية وهو الأعلى كفاءة وترشيدًا عالميًا دون المساس بمواصفات المركبات أي التعديل بالمحرك بدرجة رئيسة ويسجل لبرنامج كفاءة جهود كبيرة أسست لخطوات فاعلة للترشيد ورفع الكفاءة يمكن أن تصل بحجم ترشيدها إلى تقليل الاستهلاك بنحو 238 مليون برميل سنويًا على الأقل وفق بعض الدراسات المنشورة فيما يمكن أن يرتفع الرقم لعدة أضعاف مع إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية والمتجددة حسب الخطة المعتمدة لهذا البرنامج وبقية البرامج كالنقل العام بالمدن والقطارات التي تربط بين مناطق المملكة.
فالمملكة باتت من أعلى الدول استهلاكًا للطاقة ومن أكثرها نموًا بنسبة تصل إلى نحو 7 في المائة وهو رقم يفوق معدل النمو الاقتصادي الذي بلغ بالمتوسط خلال آخر عشرة أعوام ما يقارب 5 في المائة مما يدل على خلل كبير يفسر أن الاستهلاك ينمو سلبيًا، بل إن نسبة النمو للعام الماضي بلغت ضعف النمو الاقتصادي عند نحو 3 في المائة كما أن فاتورة الدعم والتحفيز للطاقة قدرت لعام 2014 بنحو 450 مليار ريال وهو رقم يفوق حجم الصادرات غير النفطية التي تدخل من ضمنها البتروكيماويات المشتقة من النفط والغاز بأكثر من 250 مليار ريال أي عندما نعكس كتلة الدعم على الإنتاج وصادراته غير البترولية يكون أكبر بالمحصلة حتى لو نظر البعض إلى أن ذلك يدخل فيه استهلاك المساكن والنقل لكن كل السكان في النهاية بين منتج ومستهلك ومعيل فالمحصلة للإنتاجية التي تقاس بالتصدير غير النفطي وتغطية الطلب المحلي تكون أقل من حجم الدعم وهذا خلل كبير بينما نجد أن فاتورة الدعم قياسًا بالواردات تصل إلى أكثر من 70 في المائة التي بلغت 651 مليار ريال لعام 2014 بينما تجاوزت واردات 2015 حاجز 520 مليار ريال أي أن الدعم لو حسب على عام 2014 يصبح 84 في المائة من الاستيراد وبذلك فإن الإنتاج المحلي للسلع والخدمات لا يتناسب مع الدعم لأن الاستيراد ما زال كبيرًا فإذا أضفنا فاتورة الدعم لعام 2014 على اعتبار أن أرقامه مدققة فيصبح مع فاتورة الواردات ما يقارب 1.1 تريليون ريال يعد جزءًا كبيرًا منها خسارة للاقتصاد على اعتبار أننا لو كنا منتجين بنطاق واسع فإننا لن نغطي الطلب المحلي لكن يفترض أن نغطي جزءًًا كبيرًا منه ويدل على ذلك عدد المصانع الذي يصل إلى 6400 مصنع تستهلك 42 في المائة من حجم الاستهلاك المحلي للطاقة الأولية بمختلف أنواعها، فجلّ الدعم والتحفيز يذهب لقطاع الأعمال الذي يستفيد على الأقل بنحو 70 في المائة من فاتورة الدعم.
إن هذه المقارنات العامة توضح أن الاتجاه للترشيد ورفع الكفاءة بات الخيار الوحيد ولذلك فإن التوجه لرفع الأسعار وإن كان أداة رئيسة للترشيد إلا أنه لا بد من الاستمرار باتخاذ خطوات إضافية رئيسة فسرعة إنجاز مشروعات النقل العام داخل وخارج المدن بات ضروريًا، فالمملكة تستهلك يوميًا 811 ألف برميل من البنزين والديزل بقطاع النقل ما يعادل 23 في المائة من استهلاك الطاقة منها 532 ألف برميل وهو رقم يعادل 50 في المائة من استهلاك اليابان التي تفوق بعدد سكانها أربعة أضعاف سكان المملكة ويعادل 25 في المائة من استهلاك الصين التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة أي ما يعادل 40 ضعف سكان المملكة وهي أرقام تدل على خلل بالاستهلاك يتطلب معالجات كبيرة وسريعة فإلى متى سيبقى النقل المدرسي والجامعي محدودًا، إِذ لا بد من خطوات عاجلة تكون بتكاليف مقنعة ومجزية للمستثمرين لزيادة نسبة النقل الجماعي لطلاب وطالبات المراحل التعليمية كافة بتكاليف أقل بكثير من استخدامهم لوسائل نقل خاصة والأمر ذاته يندرج على نقل الموظفين بحسب الإمكانات لكل جهة خصوصًا القطاع الخاص الذي يمكن أيضًا بإقرار إجازة أسبوعية ليومين بدل يوم واحد أن يقلل من الاستهلاك إضافة إلى إقرار تعديل بساعات عمل المحلات التجارية كما هو معمول به بأكبر الدول الاقتصادية.
ويضاف لذلك الإسراع في تنفيذ برنامج الحكومة الإلكترونية الذي قطع شوطًا كبيرًا خصوصًا ببعض القطاعات لتقليل المراجعات للجهات مع تفعيل دور البريد ليكون عاملاً مساعدًا لإيصال معاملات طالبي تلك الخدمات، إلا أن إعادة هيكلة استهلاك قطاع الأعمال الحالي تشكل الخطوة لأكثر تأثيرًا بالاستهلاك فلا بد من دعم القطاعات كافة للتحول إلى استهلاك مرشد وبكفاءة عالية إضافة إلى منع إنشاء أي مصنع أو نشاط خدماتي وإنتاجي إلا بدراسة لا تتضمن أي حسابات لحجم الدعم والتحفيز خصوصًا أن برنامج رفع أسعار الطاقة ومراجعتها سيستمر لخمس سنوات فأي جهة تطلب قرض لإنشاء مصنع يجب أن تلغى تأثير الدعم في جدوى مشروعها خصوصًا عند التقدم لطلب قرض سواء من الأذرع الحكومية أو التجارية بخلاف تغيير المواصفات لخطوط الإنتاج الذي يطلب حاليًا لكن يجب أيضًا أن يحتوي على تقنيات تقلل الحاجة لأيدٍ عاملة كثيرة وترفع الكفاءة التشغيلية، فكثير من الشركات المدرجة في السوق علقت على تأثير رفع أسعار الطاقة بأنها ستمتص الأثر برفع كفاءة التشغيل أي أنها لم تعر اهتمامًا كبيرًا لهذا الأمر سابقًا ويبدو أنها اعتمدت على رخص الطاقة وكثافة العمالة الوافدة الرخيصة الأجر بالتشغيل.
فأحد عوامل ارتفاع استهلاك الطاقة هو النمو السكاني الذي جاء من زيادة في العمالة الوافدة خلال آخر عشر سنوات بنحو 50 في المائة فهؤلاء مستهلكون يحتاجون للطاقة باستهلاك كبير وليس كنمو السكان المحلي الذي يأتي من المواليد وبلغ 25 في المائة خلال المدة نفسها خصوصًا أن بعض التقديرات تشير إلى أن معدل نصيب الفرد بالمملكة بين مواطنين ووافدين من الدعم يتجاوز 10 آلاف ريال سنويًا وفي أقل التقديرات يصل إلى 5300 ريال أي أن العمالة الوافدة تستفيد ما بين 50 إلى 100 مليار ريال سنويًا يضاف لها أن الاستهلاك للمواطنين أيضًا يتطلب منهم الترشيد بمعزل عن رفع الأسعار أي حتى لو لم يتم رفعها من باب المشاركة بالحفاظ على الثروة الوطنية للأجيال المقبلة وهي مسألة تعود أساسًا لمدى نجاح برامج التوعية بأهمية ترشيد الاستهلاك للطاقة.
لكن يبقى أيضًا للخطط الإستراتيجية التي تقوم على توليد الكهرباء من الطاقات المتجددة والنووية أيضًا الأهمية العظمى فنحو 52 في المائة من استهلاك الطاقة من حجم استهلاك محلي يفوق 3.5 مليون برميل نفط ونفط مكافئ يذهب لإنتاج الكهرباء والمياه ولذلك فإن معالجة الاستهلاك بالقطاعين تكون بتغيير في المعامل القائمة والمحطات لرفع كفاءة استهلاكها وأيضًا بالتوسع بإنتاج الطاقة الشمسية تحديدًا والنووية بحسب الاحتياج إضافة للتوسع في برامج تقلل الهدر والاستهلاك بقطاعات الأعمال والمساكن والمباني الحكومية والتجارية وإعادة هيكلة الإنفاق على المشروعات لتقليل الأيدي العاملة الوافدة التي زادت نتيجة ضخامة الإنفاق الحكومي المركز بمدة زمنية لم تتعد 11 عامًا سابقة فما تستهلكه المصانع حاليًا يمكن أن تستهلكه أضعاف أعدادها وبإنتاجية أعلى تسهم بزيادة التوظيف ورفع الطاقة الإنتاجية والاستيعابية بالاقتصاد فلا بد من أن يتوجه جزء كبير من تمويل الصندوق الصناعي لرفع كفاءة الاستهلاك في القطاع الصناعي ليكون داعمًا لبرامج كفاءة استهلاك الطاقة وفق خطة زمنية تبدأ بالأهم من النشاطات التي تأخذ نصيبًا كبيرًا من الاستهلاك مع وضع معايير مختلفة للمصانع الجديدة عمومًا.
ترشيد استهلاك الطاقة تحدٍ كبير ورفع الأسعار وإن كان أحد الحلول المهمة لكن بالتأكيد يتطلب معه معالجات لأي تضخم سينتج عنه سيؤثر على إنفاق الفرد وتكاليف المعيشة وهو ما أشير له بتصريحات رسمية عديدة بإعادة توزيع الدعم ليصل للمستهلك المستهدف من الطبقة الوسطى ومحدودي الدخل مع أهمية العمل على باقي الإجراءات الأخرى خصوصًا في القطاعين العام والخاص لتقليل الاستهلاك ورفع كفاءته للحفاظ على قوة المملكة بأسواق الطاقة للعقود المقبلة وكذلك حفظ للثروة الوطنية من الهدر الحالي في الاستهلاك.
نقلا عن الجزيرة