بعد ان عم صولة نقاش حول ورشة " التحول الوطني " بقدر من التبسيط جاءت الميزانية وخطوات التقشف المنتظرة بعد ان تأسس مستوى جديد من اسعار النفط.
الاصلاح يمر بعملية ولادة شاقة و طويلة و لن يكون الطريق خط مستقيم.
لذلك جاءت الخطوات الاخيرة برفع اسعار الوقود والمنافع والقيم بمزيج من التقشف بغرض خفض الانفاق والسيطرة على العجز ورفع الدعم كبداية لإصلاح الاقتصاد الوطني.
سبق ان كتبت مقال بعنوان : ماذا لو كانت هذه اخر طفرة نفطية، ولذلك نحن بين سندان التردد في توظيف القوى الإنتاجية لدينا وبين نموذج استغلال الممكن من الوضع الحالي (هذا الاستغلال كلنا شركاء فيه).
من الناحية الفكرية نحن دائما بين رأي يقول ان انخفاض اسعار النفط فرصة ضاغطة للإصلاح ويجب اغتنام الفرصة ورأي اخر يقول ان توفر المال اثناء ارتفاع اسعار النفط يسهل تمرير الإصلاحات.
من منظار هذه الخيارات وعلى خلفية سقف التوقعات عن الاصلاح جاءت هذه الحزمة من رفع الأسعار على الشرائح الاعلى نسبيا خاصة في المنافع والقيم وحتى الوقود بدرجة اقل.
تم مراعاة الشرائح الأدنى والمتوسطة في هذه الخطوات بمزيد من الرفاه والدعم لأكبر قدر من العامة.
الحكم على هذه الخطوة لابد ان يمر من عدسة علاقته بين ارتفاع اسعار النفط وتوفر المال ( وبالتالي الرغبة الإصلاحية ) او في حال انخفاض الأسعار وشح المال ( وبالتالي الحاجة للتقشف ).
التعامل مع الواقع عادة لا يعطينا فرصه للتمييز الدقيق او حتى الفرصة للخيار بين هذا وذاك.
ولذلك فان النتيجة العملية ان الخطوات مزيجا من الاثنين.
طبيعة التحدي تختلف من بلد لآخر حسب الظرف السياسي الاجتماعي ورؤية و كفاءة النخبة وهذه لم تكن احد الصفات في السنوات القليلة الماضية على الاقل ولذلك يصعب قراءة التوجهات المستقبلية خاصة ان النفط سلعة تتعرض لتقلبات مؤثرة.
تاريخيا النفقات مرتبطة بتوفر المال ولكن العلاقة بين الإصلاحات وتوفر المال ليست قوية.
هذه الحزمة في اغلبها تقشفية اكثر منها اصلاحية بالرغم من ان لها تأثيرات إصلاحية.
سد الفجوة المالية ووضع المملكة على مدار مالي قابل للاستدامة يلتقي مع الإصلاحات الجذرية ولذلك لتقليص العبء المالي أيضاً دور ولكن أيضاً هناك أعباء مالية لابد ان تراجع مثل المساعدات الخارجية خاصة ان هذه أثبتت عدم جدواها على اكثر من صعيد.
تقليص الدعم واعادة هيكلته تصب في اتجاه إصلاحي.
من ناحية عملية وتجربة يعتبر استهداف الشرائح العليا دائما تقشفي وخطوة للعدالة الاجتماعية ولكن حتى هذه غالبا ليست إصلاحية بالضرورة.
ولكن لازال هناك حاجة لإصلاحات اكثر ارتباط بالإنتاجية.
لعل اهم زاوية في هذه الحزمة من التعديلات في الأسعار حول مدى ارتباطها عمليا مع مستقبل الإنتاجية في الاقتصاد.
اهم خواص الاقتصاد السعودي ضعف الإنتاجية و الاعتماد على الهجرة الاقتصادية دون التنظيم والدعم.
هذه الخواص مترابطة ولذلك جاء تقليل الدعم كخطوة إصلاحية ولكنها لا تكفي.
الدعم يكون في افضل حالاته حين يعطى للمستفيد الاخير المستحق ( اغلب المواطنين السعوديين )، ليس في هذه الحزمة ما يقربنا كثيرا من هذه الخطوة الاصلاحية الحاسمة.
سلم الحسم في الاصلاح يقاس بمدى ارتقاء سلم الإنتاجية.
سياسة التقشف ضرورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدم تأخرنا كثيرا ولكنه أيضاً خطوة في الاتجاه الصحيح ولكنها لا تكفي.
الخطوة القادمة ماليا ان نراجع الدعم الخارجي.
الخطوة التالية اصلاحيا والملحة سوف تأتي قريبا من خلال اللوائح التنفيذية في نظام الرسوم على الاراضي.
مدة دقة ونفاذ و شمولية نظام الرسوم على الاراضي سوف يؤسس لمدى جدية التحول الوطني وزخم التوجه الإصلاحي.