إصلاح النظريات الاقتصادية

17/12/2015 0
عامر ذياب التميمي

تحددت النظريات الاقتصادية على مدى التاريخ الإنساني نتيجة لملاحظات ودراسات من الفلاسفة الاقتصاديين وتطورات النشاط الاقتصادي في المجتمعات الإنسانية.

ولا شك في أن تلك النظريات اعتمدت أيضاً على التحولات في الحياة الاقتصادية والانتقال في الأهمية من نشاط إلى آخر، مثل تراجع أهمية الزراعة وتعزز مكانة الصناعات التحويلية.

ودفع تطور المصارف وأهمية النقد في التعاملات التجارية إلى بروز نظريات تتصل بالسياسات النقدية وتسعير العملات وتلك المتعلقة بالتضخم والانكماش.

وبدأت النظريات الاقتصادية في عصور غابرة مثل العصر اليوناني القديم بطروح أرسطو حول فنون تكوين الثروة والتساؤلات حول ما إذا من الأجدى جعل ملكية الأصول، أي الأرض في ذلك الوقت، في يد الملاك الأفراد أو جعلها مملوكة من الدولة.

وفي العصور الوسطى طرحت أفكار في شأن تسعير السلع وكيفية تحديده وأهمية العدالة في التسعير وهكذا.

لكن تطور النظرية الاقتصادية تعزز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بعد الثورة الصناعية في أوروبا حيث حدثت نقلة نوعية في الحياة الاقتصادية في الحياة في العديد من البلدان الأوروبية ما دفع إلى بناء علاقات مختلفة بين أصحاب الثروة والعاملين في المصانع.

وشهد القرن العشرون تطبيقات واقعية للعديد من النظريات الاقتصادية. صحيح أن دولاً رئيسة مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا والولايات المتحدة اعتمدت قبل زمن طويل من بداية القرن العشرين الفلسفة الرأسمالية التي تؤكد أهمية السوق وتفاعلات العرض والطلب وحرية تكوين الثروات والقبول بالتفاوت في حقوق الملكية، إلا أن تطورات مهمة جرت في سنوات القرن الماضي.

معلوم أن الثورة البلشفية في روسيا بقيادة لينين أدت إلى قيام أول نظام اشتراكي في العالم، كما أن الأفكار والقيم الاشتراكية انتشرت في بلدان الغرب ما أدى إلى قيام أحزاب تتبنى أفكار الماركسية والقيم الاشتراكية المعتدلة ولذلك قامت الأحزاب الشيوعية والأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في بلدان مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها من بلدان أوروبية.

ودفعت هذه التحولات في الحياة السياسية إلى تعديلات في المنظومة الاقتصادية في العديد من البلدان ذات الأنظمة الرأسمالية حيث اتسع نطاق الضمان الاجتماعي والأعباء الاجتماعية وحقوق العاملين بأجور ملائمة قابلة للارتفاع بناء على مستويات التضخم، كذلك تعززت أنظمة الضرائب على المداخيل على أسس تصاعدية بالإضافة إلى الضرائب على الأرباح الرأسمالية وتأسيس مفاهيم المسؤولية الاجتماعية لرجال الأعمال ومؤسساتهم.

وغني عن البيان أن أزمة الكساد العظيم والتي انطلقت في الولايات المتحدة في عام 1929 دفعت إلى متغيرات في قيم النظام الاقتصادي العالمي ودفعت إلى تبني مفاهيم جديدة تؤكد أهمية قيام الدولة بدور حيوي في الحياة الاقتصادية، خصوصاً في وقت الأزمات وتراجع الأداء، كما أكد ذلك الفيلسوف الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز.

لا بد أن تحولات مهمة حدثت خلال عقود القرن العشرين، خصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية‘ إذ تمكنت البلدان الصناعية الرئيسة من تحسين أوضاعها الاقتصادية والارتقاء بمستويات المعيشة.

ويُشار إلى أن التطور الاقتصادي في النصف الثاني من القرن العشرين ازداد زخماً بفعل الاختراعات والإبداعات في مجالات التكنولوجيا والعلم والمعرفة.

وأدت ثورة الإعلام والاتصالات منذ العقد الثالث من القرن العشرين إلى تمكين الأعمال الاقتصادية من تطوير العلاقات بين المؤسسات وبين الدول وزيادة جرعة الإعلان بما يمكن المستهلكين من التعرف على السلع والخدمات.

هذه التحوّلات مكّنت المصارف والمؤسسات المالية من توسيع قنوات التمويل وأنواعه ودفعت إلى رفع مستوى القروض الممنوحة لمختلف القطاعات الاقتصادية. بيد أن هذه التطورات لم تكن مجانية بمعنى أن مشاكل عديدة نتجت من التوسع في النشاطات الاقتصادية في مختلف البلدان الرئيسة مثل الولايات المتحدة واليابان والدول الأوروبية.

ونتجت من التوسع في تمويل نشاطات محددة مثل العقارات في الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وغيرها فقاعات تفجرت بعد حين لتكلف النظام المصرفي في أكثر من بلد، ودفعت إلى تدخلات من قبل الحكومات، وحدث ذلك في الولايات المتحدة واليابان في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته.

هذا ناهيك عن أزمة الرهن العقاري في سنوات العقد الماضي من هذا القرن في الولايات المتحدة وإسبانيا.

بطبيعة الحال هذه الأزمات قابلتها أزمة النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي والبلدان الخاضعة لنفوذه في أوروبا الشرقية والتي بينت عدم قدرة ذلك النظام على تحقيق كفاءة في العمل الاقتصادي ناهيك عن تأمين المتطلبات الاستهلاكية العصرية لمواطني تلك البلدان. وأدت أزمة الاشتراكية إلى سقوط الأنظمة وتحول البلدان إلى أنظمة اقتصاد السوق.

المفيد في هذه التطورات أن العديد من المسلمات تراجعت وبدأ المنظرون بالبحث عن معالجات موضوعية للتعامل مع متطلبات اقتصادية مستقرة ضمن أنظمة مستقرة حول مفاهيم عقلانية أو رشيدة.

ولا بد من أن الأزمة الأخيرة، التي لا يزال العالم يعاني تأثيراتها في مختلف القطاعات والنشاطات، دفعت إلى مراجعات في أنظمة عديدة، وأهمها النظام المصرفي والسياسات النقدية وأنظمة الضرائب وغيرها.

والتساؤل المهم هنا هو: هل يمكن أن تتطور النظريات الاقتصادية خلال العقود المقبلة لتحصين البشر من الأزمات والارتقاء بكفاءة الأعمال والنشاطات؟

نقلا عن الحياة