أكُمل في مقال اليوم ما توقفت عنده في المقال السابق من تصورات عن التغيرات المتوقعة في السياسة الاقتصادية لدولة قطر على ضوء ما ورد في خطاب حضرة صاحب السمو الأمير المفدى من توجيهات أمام أعضاء مجلس الشورى.
وفي حين تناولت في المقال الأول ما يمكن توقعه على صعيد خفض النفقات، وزيادة الإيرادات العامة، فإن مقال اليوم يتناول تصوراتي عن دور القطاع الخاص في المرحلة القادمة، مع التنويه إلى أنني ألمحت في نهاية المقال السابق إلى تفضيل حصول نوع من التباطؤ في نمو هذا القطاع في المرحلة الراهنة، وذلك إذا ما أريد تحقيق توجيهات حضرة صاحب السمو الأمير المفدى بوقف انفلات أسعار العقارات، وضبط معدل التضخم.
ولكي يكون الكلام واضحاً ومفهوما فإنني أطرح التساؤلات التالية:
- لماذا تهتم دول العالم بتحقيق معدلات نمو سنوية على ناتجها المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة الحقيقية؟
-وهل كلما زادت المعدلات، كلما كان ذلك أفضل، أم أن هنالك ضوابط وقيود على هذا الأمر؟
-وما هو المطلوب في حالة دولة قطر؟
في الإجابة على التساؤل الأول أذكر بأن الناتج المحلي الإجمالي يُعرف بأنه إجمالي نواتج جميع القطاعات والوحدات التي يتألف منها المجتمع في سنة واحدة، أي إجمالي حاصل ضرب الكميات المنتجة من السلع والخدمات مضروباً في أسعارها خلال السنة.
فإذا زاد عدد الوحدات المنتجة زاد الناتج وحصل نمو عن السنة السابقة. وقد تكون الزيادة في الناتج بسبب زيادة الطلب المحلي بفعل الزيادة السكانية، أو نتيجة للتوسع في الصادرات من بعض المنتجات.
وهذه الزيادة مطلوبه لتحقيق زيادة في دخل الافراد والشركات، وهي زيادة حقيقية لكونها قد نتجت عن زيادة حجم الإنتاج. ويترتب على هذه الزيادة أيضاً زيادة عدد العاملين، وزيادة دخل الحكومات من الضرائب في الدول الرأسمالية.
ويمكن أن تحدث الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي من جراء زيادة أسعار سلعة رئيسية أو مجموعة كبيرة من السلع، ومثل هذه الزيادة تكون غير حقيقية، بافتراض لم يصاحبها نمو في الكميات المنتجة.
ومن أجل ذلك يتم التمييز بين النمو الإسمي-أي باستخدام الأسعار الجارية-وبين النمو الحقيقي- أي بتثبيت أسعار السلع والخدمات كما كانت عليه في سنة سابقة، أو في سنة أساس.
وتهتم الدول عادة بتحقيق نمو حقيقي، لأن هكذا نمو ينتج عنه زيادة في التشغيل والتوظيف للأيدي العاملة وهو أمر محمود في المجتمعات الرأسمالية، وعكسه تماماً أن يقل الناتج وتحدث عمليات استغناء عن أعداد من العاملين فتزداد معدلات البطالة.
ومعدلات النمو الحقيقية تكون مرغوبة إذا كانت بين 3-4%، لأنها تتماشى مع الزيادة السكانية الطبيعية، بحيث يتم استيعاب الداخلين إلى سوق العمل سنوياً، مع تحقيق تحسن في مستويات الدخول. فإذا انخفض المعدل عن 3% فإن معنى ذلك امكانية حدوث تراكم في عدد الباحثين عن عمل، ويزداد معدل البطالة.
أما إذا ارتفع معدل النمو عن 4% فإن ذلك يفتح المجال لوصول المجتمع إلى حالة التشغيل الكامل لقوة العمل، مع حدوث زيادات في معدل التضخم وهو أمر غير محمود.
ولا تنطبق المفاهيم الاقتصادية المشار إليها على الاقتصاد القطري لعدة أسباب أهمها أن الدولة تعتمد على مواردها الخاصة من النفط والغاز وأرباح استثماراتها ورسوم الخدمات، ولا تشكل الضرائب على أرباح الشركات الأجنبية إلا نسبة محدودة من دخلها السنوي، مع عدم وجود ضرائب على أرباح شركات القطاع الخاص القطري أو على دخول الأفراد بوجه عام.
كما أن دولة قطر لا تزال في مرحلة بناء الدولة الحديثة، وتشهد نمواً غير عادي في عدد السكان؛ بحيث تضاعف العدد عدة مرات في الفترة الممتدة ما بين 2000-2015.
وتتميز دولة قطر أيضاً-مثلها في ذلك كبقية مصدري النفط والغاز- بأن ارتفاع إيراداتها السنوية نتيجة ارتفاع الأسعار يكون مصحوباً بزيادة فعلية في إيراداتها وقوتها الشرائية، وهو أمر له اعتبارات خاصة لم تراعيها نُظم المحاسبة القومية التي تضعها الأمم المتحدة.
ويترتب على خصوصية الوضع القطري، أن نمو ناتج القطاع الخاص بمعدلات مرتفعة تزيد عن 5-6%، هو أمر قد لا يكون حميداً، لأنه يؤدي إلى استمرار تزايد عدد السكان نتيجة نقص المعروض من قوة العمل المحلية، والإعتماد على الخارج في تلبية الاحتياجات المستمرة من العمالة.
وقد يتم التجاوز عن هذا الأمر لسنوات معينة من أجل بناء المرافق، إلا أن استمراره بشكل دائم –وخاصة في سنوات انخفاض أسعار النفط والغاز- أمرٌ يُدخل البلاد في حالة من الحلقة المفرغة من حيث الحاجة إلى التطوير المستمر في البُنية التحتية ومرافق الخدمات، وهو ما يضغط على ميزانية الإنفاق الحكومي، ويساهم في رفع معدل التضخم.
ومن جهة أخرى فإن عدم وجود ضرائب على مداخيل القطاع الخاص يعني عدم استفادة الحكومة مالياً من نمو القطاع الخاص لتعويض التراجع في إيراداتها من النفط والغاز.
والأخطر من ذلك أن التسارع السكاني يساهم في ارتفاع أسعار العقارات والوحدات السكانية، ومن ثم يزيد تكاليف التشغيل والتوظيف على الحكومة.
وقد يكون من المناسب الاعتماد على قوة العمل المحلية من أبناء المقيمين الذين عاشوا وتعلموا في قطر بدلاً من استمرار جلب عمالة جديدة، لأن التكلفة الاقتصادية لجلب عمالة من الخارج –التي تتحملها البلاد وليس فقط تكلفة التشغيل المالية المباشرة التي يتحملها صاحب العمل- قد أصبحت مرتفعة.