يخطئ البعض عندما يتصور أن حرية الأسواق والاقتصاد الحر يعني امتناع الدولة عن التدخل وبقائها في المدرجات مشاهدة لما يحدث داخل الملعب.
في حين يتصور البعض الآخر أن الدول يجب أن تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وأن مسؤوليتها تُشابه المسؤولية الملقاة على عاتق الأب والأم في رعاية طفل لم يبلغ الحلم. كلا الرأيين خاطئين، فالدول لا بد أن تتدخل في حالات.
فقد شاهدنا في الأزمة المالية أن كثيراً من الاقتصاديات المتقدمة الحرة تدخلت لتنفذ نظامها المالي بضخ سيولة الغرض منها تقوية المراكز المالية لهذه المنشآت، وذلك إما بشراء الأصول المسمومة وإخراجها من ميزانية المنشآت، أو ضخ السيولة، أو شراء حصص وتملك في المنشآت المضطربة، للمحافظة على قدرتها في العمل كوسيط حيوي في المراكز المالية.
بل إن هذه الدول ذهبت لأبعد من ذلك، وتدخلت في الطريقة التي يتم بها مكافأة كبار التنفيذيين والمديرين ممن لديهم القدرة على التأثير على قرارات المنشأة؛ بهدف التأكد من أن هذه المكافآت لاتدفعهم في الإغراق في العمليات التي تؤثر على سلامة المركز المالي للمنشأة بغرض الحصول على مزيد من المكافآت؛ بل إن الاتحاد الأوربي تدخل إلى أبعد من ذلك بفرض حد أعلى لهذه المكافآت بأن لا يزيد عن مقدار الراتب الأساسي، أو ضعفيه في حال موافقة ملاك المنشأة.
لذا يبقى السؤال أين نرسم الحد الفاصل بين جواز تدخل الدولة، وبين المحافظة على حرية السوق؟
يمكن الجواب عن ذلك ببساطة، وذلك بأن تدخل الدولة يكون في الحالات التي تعجز فيها الأسواق عن العمل بشكل جيد، أو بمعنى آخر عندما تفشل قوى العرض والطلب عن تحقيق المخرجات أو عن إخراجها بكفاءة.
هذا الجزء السهل من الجواب، لكن الصعوبة تكمن في تطبيق هذا الكلام النظري على الحالات العملية.
أي متى وكيف نقول بأن هناك فشل في قوى العرض والطلب مما يستدعي تدخل الدولة لاصلاح الخلل الذي لا يمكن إصلاحه بقوى العرض والطلب. هناك عدة حالات شهيرة لهذا الفشل، منها:
•الآثار الخارجة: بمعنى أن لو كان فعل الشخص أو العلاقة الخاصة بين شخصين تؤثر على آخرين لا علاقة لهم، فإن الدولة تتدخل لحماية هذا الطرف الخارج والتأكد من مراعاة حقوقه.
مثاله المدخن، فهو يدخن، ويؤثر على صحته، فهذا شأنه، لكن الآخرين لهم حق في أن لا يدخن ويؤذيهم بدخانه، لذا قد تتدخل الدولة في منع التدخين في بعض الأماكن .
كما أن المستشفيات الحكومية لها الحق في أن لا يؤذيهم ويحصل على العلاج المجاني بسبب هو فعله بنفسه، لذا تتدخل الدولة بفرض الضرائب العالية على التدخين للحصول على ثمن العلاج مقدماً.
•الامتناع عن انتاج سلعة أو خدمة مهمة أو فقدانهما من الأسواق: في بعض الأحيان يمتنع الجميع عن انتاج سلعة مهمة رئيسية طمعاً في أن يقوم بهذا العمل شخص آخر، مثاله إذا كان هناك طريق غير مسفلت بين عدة منازل، فإن صاحب كل منزل قد يمتنع عن سفلتته؛ لأنه سيخسر وحده، في حين أن الآخرين سيستفيدون من الطريق دون حاجتهم لدفع نفقات السفلته.
•تباين المعلومات: عندما يكون هناك تباين في المعلومات بين المستهلك والمنتج، أو البائع والمشتري، بمعنى أن أحدهما يملك معلومة مهمة ولا يرغب في مشاركتها مع الطرف الآخر رغم حاجته لها، فإن الدولة تتدخل لإلزام مالك المعلومة بالافصاح عنها.
مثاله إجبار الشركات المُدرجة بالافصاح عن معلومات عن الشركة ما كانوا يحتاجون للافصاح عنها لو لم تكن الشركة مدرجة.
•انعدام أو ضعف المنافسة في السوق: هنا تأتي أنظمة المنافسة للمحافظة على المنافسة العادلة في السوق ومنع المنشأة أو مجموعة من المنشآت من التلاعب في الأسواق واستغلال وضعها وهيمنتها.
•عدم استقرار الاسعار: عندما تكون السلع أو الخدمات الأساسية عرضة لتقلبات حادة في الأسعار، بحيث تكون هذه التقلبات مؤثرة على المستهلكين أو المنتجين، فإن الدولة تتدخل لإعادة الاستقرار لأسعار هذه السلع الرئيسية التي لا يستغني عنها المستهلك.
لذا فإن حرية الأسواق والاقتصاد لا تعني منع تدخل الدولة؛ بل تقنين تدخل الدولة.
المطلوب الشفافية والصدق والإعلان عند البيع والشراء من قبل الهيئة