بعد الأزمة المالية العالمية الطاحنة التي بدأت شرارتها عام 2008م تحرك العالم بقيادة دول مجموعة العشرين لمواجهتها بسيل من السياسات النقدية والمالية المرنة والتوسعية، فكان اجتماع المجموعة في واشنطن عام 2009م منعطفًا تاريخيًا، حيث اتفقت الدول الأعضاء على اتخاذ إجراءات واسعة من بينها التعهد بضخ خمسة تريليونات دولار لتحفيز اقتصادياتها وفق احتياجها، مما أسهم في احتواء الأزمة.
بعدها بفترة قصيرة نسبيًا ومن ثم بدأت معدلات النمو تتحسن خصوصًا في أمريكا أكبر اقتصاد عالمي، التي دفعت أكبر حصة من فاتورة معالجة الأزمة من خلال برنامج التيسير الكمي الضخم وأدى ذلك لانخفاض البطالة فيها من قرابة 10 بالمائة إلى نحو 5.3 في المائة حاليًا بينما أتى أداء باقي الاقتصاديات للأعضاء متباينًا حسب ما قامت به من إجراءات وكذلك بحسب حالة اقتصادها وتأثير الأزمة العالمية فيه.
كل ذلك أدى لزيادة ضخمة في الكتلة النقدية في الأسواق خصوصًا الكبرى وزاد من وتيرة المضاربات في الأسواق المالية والسلع ورفع الأسعار لسنوات لم تكن فيها هذه الارتفاعات تعبر وفق المعايير العلمية أو الاستثمارية عن كفاءة بالتسعير أو عدالة تتناسب مع القيم المستحقة إلى أن بدأت ملامح التغير في السياسات المالية والنقدية تتغير في أمريكا العام الماضي، فتم وضع مدة زمنية لإيقاف برنامج التيسير الكمي وهو ما حدث وكذلك تم الإعلان عن النية لرفع أسعار الفائدة التي يتوقع أن تبدأ قبل نهاية هذا العام وهناك احتمال أن يكون سبتمبر المقبل بداية لرفع أسعارها بعد توقف لمدة عشر سنوات عن الاتجاه الصاعد لها وأهمية ذلك معروفة نظرًا لأن الدولار عملة الاحتياط الأولى في العالم وكافة السلع تقيم به وعديد من العملات العالمية ترتبط بالدولار مما سيعني توجهًا نحو زيادة الاحتياطيات والمدخرات بالدولار. إلا أن ما يجري الآن من هبوط حاد للأسواق المالية العالمية عمومًا وسبقه هبوط في أسواق السلع وعلى رأسها النفط الذي فقد أكثر من 50 في المائة من أعلى أسعار وصلها، كل ذلك فتح الباب على تساؤلات حول ما يجري في الاقتصاد العالمي، فهل ما يحدث هو عودة لمربع الركود الاقتصادي عالميًا وأن كل ما أنجز لم يكن أكثر من مغذيات ومسكنات مؤقتة لجسد مريض أم أن لحظة الاختبار لمدى قوة تلك الإجراءات قد بدأت وبات هذا الجسد يمتلك من القوة ما يساعده على النهوض ذاتيًا دون مساعدات حكومية؟
مما لا شك فيه أن الإجابة على هذه التساؤلات موجودة لدى الحكومات بحسب علاقتها بكل معطيات الاقتصاد العالمي وعلاقته بأزماته وارتباطها فيه وكذلك بيوت المال العالمية الكبرى، فقبل عدة أشهر قال أغلب مديري الصناديق الاستثمارية الكبرى المدارة من مؤسسات مالية عالمية أنهم ينوون تخفيف حيازتهم للأسهم في الأسواق الكبرى نظرًا لأن نموها المقبل سيتباطأ قياسًا بما وصلت له أسعارها التي حركتها المضاربات بكثافة عالية لسنوات.
إلا أن ما يمكن ملاحظته أن الاقتصاد العالمي بقيادة الدول الكبرى المؤثرة فيه سيمر بأهم مرحلة اختبار تتيح معرفة قدرته على النمو ذاتيًا بعيدًا عن تدخلات حكومية كبيرة كالتي حدثت قبل ستة أعوام خصوصًا أنه تم معالجة ملفات سلبية كبرى لدى تلك الدول وأصبح من المفترض أن يظهر تأثير ذلك في كافة شرايين وقطاعات اقتصادياتها مما يعني أن التسعير للأصول والسلع سيكون أكثر واقعية من الفترة الماضية وتصبح حتى المضاربات مقبولة بحجمها وتأثيرها، لأنها ستتناسب مع الواقع أكثر وليس فقط استغلالاً لحجم النقد الضخم الذي ضخ سابقًا خصوصًا من التيسير الكمي الذي فاق الاحتياج الفعلي للاقتصاد العالمي مما رفع الأسعار في الأسواق كاستباق لطلب سيأتي لاحقًا فالقياس سيبدأ على عدد سنوات طويلة وهذا سيكون له تأثير في كفاءة التسعير وعدم التغير بالأسعار بتسارع كبير ضرره أكثر من نفعه فارتفاع أسعار النفط الضخم أدخل منتجين صغارًا كشركات النفط الصخري لسوق مهم جدًا وتسبب في ارتفاعات في المعروض لا تتماشى مع الطلب الحالي، فالتأثير جاء من المضاربات التي أوحت بأنها فترة رواج فزاد الإقبال على الإنتاج بالشكل الحالي بينما تصحيح الأسعار سيعيد السوق للتوازن وسيتماشى مع الطلب ويخرج منه المنتجون الصغار الطارئون حتى تصبح السوق البترولية أكثر كفاءة وجذبًا للاستثمارات المستقرة؛ لأن الطلب سينمو وسيفوق المعروض الحالي في بحر السنوات الخمس المقبلة إلا أن الحاجة للتوازن في السعر ضرورة حتى تستقر الأسواق وتساعد على نمو الاقتصاد العالمي بعيدًا عن التشوهات التي تحدثها المضاربات المحمومة.
المرحلة الانتقالية في الاقتصاد العالمي ستكون بالتأكيد صعبة القراءة وتبدأ بالتصحيح لأسعار الأصول والسلع عمومًا وهو ما يحدث حاليًا وسيكون أثر ذلك على المستثمر الفرد أكبر من غيره، لأن ما يحدث سيميع الصورة أمامه لتصبح قاتمة بالمجمل ولا يعرف ما هو الاتجاه المقبل للاستثمارات ولذلك لا بد أن يكون القرار حكيمًا ومتوازنًا ويبتعد فيه عن العاطفة والتأثر بألوان الأسعار وذات الأمر ينطبق على من ينوي الاتجاه للاستثمار بمشروعات إنتاجية وخدمية، فالمهم أن يعرف التوجهات العامة لأي اقتصاد ينوي الاستثمار فيه، فالمرحلة السابقة اعتمدت على ضخ الأموال في مشروعات لن يستمر الاتجاه لها بنفس الزخم لكن بالتأكيد هناك آفاق جديدة ستظهر وهي ما يجب أن يتبعها المستثمرون، فمن رحم الأزمات تولد الفرص؛ لأنها مؤقتة وانتقالية بين مرحلتين.
نقلا عن الجزيرة