صناعة لعنة الموارد

26/07/2015 2
مازن مطر

مقدمة

لعل ابرز ما اثار انتباهي في اعلان التوصل الى الاتفاق النووي مع ايران مؤخرا هو تركيز الساسة الايرانيين الشديد على المكاسب التي ستجنيها ايران من الانفتاح في تصدير البترول و تحصيل عوائدهم بلا قيود.

في حين انه، وعلى عكس مما يبدو، قد يكون هذا التاثير سلبيا للغاية على الايرانيين على المدى الطويل. 

يبلغ الناتج المحلي الاجمالي الايراني  بالاسعار الحالية حوالي 415 مليار دولار  (2014) يشكل قطاع الموارد الطبيعية منها حوالي 39%، في ظل انتاج بترولي يبلغ حوالي الثلاثة ملايين برميل يوميا يتم تصدير حوالي مليون برميل منها وتسويقها باسعار منخفضة لتفادي العقوبات الدولية المفروضة عليها  و للتعويض عن تكلفة التامين الذاتي التي تقوم بها مؤسسات الشحن البترولي الايرانية للتعويض عن امتناع مؤسسات التامين العالمية عن تامين الشحن النفطي الايراني.

كما تملك ما يزيد عن 30 مليون برميل مخزنة في خزانات عائمة و جاهزة للنقل عند رفع العقوبات. في المقابل، تتوقع العديد من المؤسسات المتخصصة ان تتسبب ازالة العقوبات الدولية في زيادة صادرات ايران النفطية الى حوالي 2.4 مليون برميل يوميا كحد اقصى خلال العام المقبل (2016)، مما سيؤدي بالتاكيد الى زيادة كبيرة في مساهمة القطاع النفطي في الناتج المحلي الايراني و توجه العديد من رؤوس الاموال، المتواجدة حاليا في قطاعات اخرى، الى الاستثمار في القطاع النفطي اللذي يتجاوز مجرد استخراج النفط الخام الى تنقيته ونقله و تخزينه و تكريره...الخ. 

من الناحية النظرية، فإن إزالة العقوبات هي إستراتيجية طويلة الأمد لزيادة فعاليتها و جعلها اكثر تاثيرا في حالة إعادتها، حيث ان ربط المصالح الإقتصادية الإيرانية بالدول فارضة العقوبات يجعل من التهديد بفرض العقوبات امرا اكثر واقعيا و تخويفا، و لا ننسى ان امريكا لم تقم علاقات مع ايران منذ نهاية السبعينات، مما جعل اعتماد ايران على امريكا محدودا و بالتالي اضعف من تاثير العقوبات الامريكية، و لم ترضخ ايران للمفاوضات النووية الا بعد ان انضم الاتحاد الاوروبي (اللذي كان يعتبر الشريك التجاري الاول لايران) الى قائمة فارضي العقوبات. 

لكن التاثير العملي لإزالة العقوبات يمتد الى اكثر من مجرد جعل العقوبات اكثر فاعلية الى إحداث تغيير هيكلي ممنهج في البنية الاقتصادية و الاجتماعية الايرانية و بالتالي صناعة ما يسمى لعنة الموارد. 

كيف تصنع لعنة الموارد؟

لعنة الموارد هو مصطلح اطلقه الاقتصادي Richard Auty  في بحثه لعام 1993 عن الحالة التي تصيب الدولة بسبب وفرة الموارد الطبيعية الغير متجددة و تدفق العملة الصعبة على الدولة من الخارج، و قد لاحظ في البحث اللذي اجراه ان الدول او المقاطعات التي تصيبها هذه الحالة تميل الى ان تحقق نسبة تمو اقتصادي تقل كثيرا عن الدول التي تفتقد لهذه الموارد لاسباب ابرزها تراجع التنافسية (المرض الهولندي Dutch Disease) و تراجع التنويع الاقتصادي و تزاحم الموارد البشرية على القطاعات الريعية ما يضعف تنمية المهارات الأخرى. و قد تناولت في احد ابحاثي حالة المجتمع الاقتصادي في الشرق الكندي، الغني بالموارد البحرية المتجددة، و الذي خسر ميزاته التنافسية بسبب تزاحم الموارد البشرية و الراسمالية الكندية للحصول على نصيب من الكعكة النفطية في مقاطعات الغرب (البرتا و ساسكاتشوان) بالاضافة الى نيوفاوندلاند في اقصى الشرق.

و بالرغم مما توحي به الحال الإيرانية من صورة وردية، الا ان حقيقة صافي القوة البشرية المشاركة في الاقتصاد الايراني لا تزيد عن 28 مليون نسمة من اصل اكثر من 77 مليون نسمة بالاضافة الى حقيقة ان البر الايراني واسع و تعتمد الكثير من مناطقه على صناعات محلية اخرى، في ظل سيطرة الدولة على القطاع النفطي، تجعل من الاقتصاد الايراني عرضة للكثير من المخاطر التي قد تؤدي الى مشاكل هيكلية في الاقتصاد اذا لم تتمكن الدولة الايرانية من ادارة الاقتصاد بشكل فعال في المرحلة المقبلة.

الصورة على الجانب الايراني

بالرغم مما خسرته ايران ابان فترة العقوبات الاقتصادية عليها، الا انها تمكنت من بناء اقتصاد اكثر تنوعا و حيوية من العديد من الاقتصاديات المحيطة بها. نرى على سبيل المثال ان مساهمة القطاع النفطي الايراني بالنسبة الى الناتج القومي الاجمالي قد انخفض من اكثر من 50% في عام 2006 الى اقل من 40% في عام 2013، علما بان العقوبات بدات في عام 2009 و بلغت ذروتها في عامي 2011 و 2012، كما حقق القطاع الصناعي نسبة نمو بلغت 2.4% في عام 2014. 

و بالرغم من ان الصناعات الايرانية لم تبلغ مرحلة الكفاءة التي تؤهلها للمنافسة في السوق العالمية، فان انسحاب الموارد البشرية و الراسمالية الى القطاع النفطي سيؤدي الى قطع الطريق على تطوير هذه الصناعات و الى انهيار المنحنى الخبراتي و التعليمي (Learning Curve) اللذي تم تطويره في السنوات السابقة.

في المقابل، فان ضعف كفاءة النظام البنكي و الاستثماري الايراني سيؤدي الى هروب عوائد النفط المتدفقة الى ايران لتبحث عن قنوات استثمارية في دول اخرى، مما سيزيد من اعتماد ايران على دول العالم الاخرى و تراجع قدراتها على الاكتفاء الذاتي و بالتالي خلق حالة من الاعتماد الاقتصادي الايراني على دول معينة.

و بالرغم من ان تفاصيل بنود الاتفاق النووي الاقتصادية غير واضحة الى الان، الا ان دراسة الدكتورة Tina Evans (2011) عن فرض الاعتماد و التبعية الاقتصادية يقدم تفسيرا منطقيا للاسباب التي دفعت الى اتمام هذا الاتفاق. 

تعتقد Tina ان بداية صناعة التبعية الاقتصادية تبدا من تغيير الحالة القائمة (destabilizing) بغض النظر عن مدى صلاحيتها و بالتالي تغيير المسار الطبيعي للاقتصاد.

و بالرغم من ان الاقتصاد الايراني ابعد ما يكون عن الطبيعية، في ظل سيطرة الدولة على معظم مرافق الاقتصاد، الا ان بقاء الوضع الاقتصادي الايراني على ما هو عليه سيعمل على ان يقوم الاقتصاد الايراني بتصحيح نفسه و اكتساب ميزات تنافسية مع الوقت.

و بالتالي، فاننا نرى ان الاتفاق النووي بشقه الاقتصادي سوف يقوم بعرفلة ذهاب الاقتصاد الايراني الى مرحلة التصحيح و انحراف طريقة الى التبعية الاقتصادية. 

تتابع Tina خطوات صناعة التبعية الى المرحلة الثانية، و هي اتخاذ خطوات تصاعدية تمنع الاقتصاد المستهدف من تطوير ادوات الاكتفاء من خلال فتح السوق المحلي و اغراقه بمنتجات وخدمات تجعل السوق المحلي في غنى عن تطوير منتجاته وخدماته الخاصة، و يشمل ذلك النظام البنكي من خلال تقديم قروض و هبات للدولة المستهدفة و مؤسساتها و حتى افرادها لربط ارادتهم الاقتصادية بمصالح الجهات المانحة.

تكون نتيجة هذه الخطوات ان الدولة المستهدفة تفقد قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة قد تحرمها من مزايا اقتصادية هامة في المستقبل. قد يبدو المثال اليوناني مثالا جيدا لتصوير هذه الحالة من فقدان القدرة على اتخاذ قرار يتعلق بفرض ضرائب على شعبها بدون الرجوع الى الاتحاد الاوروبي. 

و لتصوير الامر في الجانب الايراني، فالناخذ القطاع الصناعي في ايران على سبيل المثال. تقوم المصانع الايرانية حاليا باستخدام الات مصنعة محليا او مستوردة من دول حليفة كالصين و روسيا، و بالتالي فان قطع الغيار من الممكن الحصول عليها بطريقة سهلة نسبيا وذات تكلفة منخضة سياسيا، في حين ان تشغيل المصانع بالات غربية سيجعل من استيراد قطع الغيار امرا ذو تكلفة سياسية ابهظ على ايران.

و يصبح الامر اكثر تعقيدا عن اضافة قطاعات اكثر تطورا كقطاع الطيران، على سبيل المثال، للصورة. 

الفرص الممكنة

بالرغم من ان ازالة العقوبات يبدو امرا ورديا في اعين المسؤولين الايراينين و سوداويا في اعين دول مجلس التعاون، فان الامر يمكن تحويله الى واقع اخر تماما باتباع خطوات تربط ايران مصالح ايران الاقتصادية بمصالح جيرانها. ابسط هذه الخطوات هو استغلال الانظمة البنكية الخليجية للسيطرة على القطاع البنكي الايراني و دفعه للتكامل مع الانظمية البنكية المحيطة به. 

تتمتع الامارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، بقاعدة بنوك متنوعة تقدم خدمات متقدمة حتى بالنسبة للدول المتطورة، و تشكل قنوات استثمارية مغرية للمستثمرين من كافة دول العالم.

ان سعي هذه البنوك لتقديم خدمات لاكثر من 77 مليون نسمة في ايران قد يعمل على خلق تبعية بنكية للنظام البنكي الايراني مع الانظمة البنكية الخليجية.

ايضا، تعتبر الامارات العربية المتحدة الشريك التجاري الأول لايران، حيث تستورد ايران اكثر من 35% من مستورداتها من الإمارات مما يشكل فرصة تبعية مميزة بالنسبة للموردين و للبنوك المانحة لخطابات الاعتماد.

على الناحية الأخرى، تمتلك المملكة العربية السعودية قاعدة صناعات بتروكيماوية متميزة على مستوى العالم، و قادرة على تاجير فائض القدرة الانتاجية لتحويل النفظ الايراني الى منتجات ذات قيمة مضافة مقارنة مع تصدير النفط الخام، خاصة في ظل انخفاض اسعار النفط، و بالتالي ربط القطاع النفطي الايراني بالقطاع البتروكيماوي السعودي، و في نفس الوقت، سحب حصة من انتاج النفط الايراني من السوق الى قطاع البتروكيماويات و بالتالي زيادة الحصة السوقية السعودية في سوق النفط الخام. 

الخلاصة

على الرغم من الصورة الوردية التي يرسمها الساسة في ايران للاتفاق النووي، فان التبعات الاقتصادية ستؤدي الى لعنة موارد متميزة في ايران في ظل انخفاض اسعار هيكلي و اساسي للنفط الخام (مما يعني ان تقدم الدولة الايرانية تخفيضات كبيرة في حقوق الامتيار الى شركات النفط الكبرى لتغريها بالاستثمار في الوقت الراهن)، و انخفاض شديد في كفاءة البنوك التمويلية و الاستثمارية الايرانية (مما يؤدي الى عجز النظام البنكي و الاستثماري عن خلق فرص استثمارية داخل ايران و المساهمة فيها)، مما سيؤدي الى تبعية الاقتصاد الايراني للعديد من الدول القادرة على استغلال الفرصة بشكل فعال.

و تبدو دول مجلس التعاون قادرة على استغلال هذه الفرصة المميزة بشكل فعال اذا احسنت استغلال المزايا الاقتصادية التي بنتها عقود من الاستقرار السياسي و الاقتصادي.