تؤدي السياسات المالية في بلدان الخليج دوراً أساسياً ومهماً في عملية التنشيط الاقتصادي، لكن هل تملك هذه السياسات الفاعلية ذاتها كما في البلدان الرأسمالية التقليدية؟
تشير دراسات أخيرة إلى أن السياسات النقدية في بلدان المنطقة يمكن أن تكون ذات تأثير في النشاطات غير المرتبطة بإنتاج النفط أو عمليات الإنفاق الحكومي، فالمصارف المركزية في بلدان الخليج تتبع النظم النقدية المتعارف عليها عالمياً وهي تلتزم بشروط «بازل 1 و2 و3» المتعلقة بالملاءة المالية للمصارف والمؤسسات المالية.
وتتابع المصارف المركزية أسعار صرف العملات الوطنية بناء على مقاييس تتعلق بربط هذه الأسعار بالدولار (معظم دول الخليج) أو بسلة من العملات الرئيسية (الكويت).
كذلك تحاول هذه المصارف أن تحدد سعر الحسم، ومن ثم تسعير الفوائد المصرفية بناء على أسعار الفوائد المعتمدة للعملات الرئيسية مثل الدولار واليورو. تضاف إلى ذلك معايير تشترط المصارف المركزية على المصارف اتباعها في عمليات الإقراض وتحديد آجال التسديد وكيفية تحديد الضمانات والرهون من الأصول الحقيقية، سواء كانت مالية أو عينية.
وربما تكون أسعار الفوائد في بلدان الخليج أعلى من مثيلاتها في البلدان المتقدمة، نظراً إلى محاولات المصارف المركزية الحفاظ على سياسات إقراض متحفظة لدى المصارف والمؤسسات المالية، وحظيت هذه السياسات بانتقادات.
لكن الارتفاع المهم في قيم الأصول العينية، خصوصاً العقارات، قد يفسر هذه السياسات. وأدى تراجع الأسهم في الأسواق المالية الخليجية خلال السنوات المنصرمة إلى تراجع قيم الضمانات المتوافرة للقروض المقدمة إلى أفراد ومؤسسات في مختلف القطاعات الاقتصادية. ونتج عن تلك الأوضاع تخصيص المصارف مبالغ مهمة بعد بدء الأزمة المالية العالمية عام 2008، لمواجهة تعثر العديد من المدينين وإخفاقهم في خدمة الديون.
ونتج عن توافر السيولة في المصارف تقديم قروض لاقتناء العقارات والأسهم بما أدى إلى تضخم في أسعار الأصول ثم حدوث فقاعات دفعت المؤسسات ورجال الأعمال إلى الإعسار وتسبب بتلاشي القدرة على مواجهة الاستحقاقات.
لذلك وفي ظل عدم توفر فرص اقتصادية ملائمة، يتعين على المصارف المركزية التشدد في السياسات النقدية، خصوصاً في ما يتعلق بالإقراض. لكن هذه الحقائق تفرض على المصارف المركزية تطوير أنظمة الائتمان بما يخلق فرصاً أفضل لعمليات التمويل.
ثمة علاقة طردية بين الإمكانيات المالية المتاحة في النظام المصرفي في أي من بلدان الخليج وارتفاع قيم إيرادات النفط التي تجنيها حكومات هذه البلدان.
وتُعتبَر فرص الاستثمار المتاحة لمؤسسات القطاع الخاص داخل بلدان المنطقة محدودة نظراً إلى الاعتبارات الموضوعية ومحدودية الميزات النسبية للعديد من النشاطات في بلدان المنطقة وكذلك للدور المهيمن للدولة على النشاطات الأساسية. لذلك يفضل المستثمرون اقتناء الأصول السائلة والعينية من أجل تحقيق أرباح رأسمالية بفعل تضخم الأسعار، ويتوجه كثر منهم إلى المصارف للحصول على تمويلات مناسبة.
وتطمح المصارف في بلدان الخليج إلى فرص تمويل تسمح لها بتوظيف أموالها في قنوات مفيدة ومضمونة فتوافر السيولة الكبيرة لدى المصارف دفعها خلال السنوات الماضية إلى تقديم قروض إلى جهات لم يجر التيقن من جدارتها الائتمانية.
ومن يتمع بالإمكانات المالية المتوافرة لدى المصارف في الخليج لا بد من أن يلاحظ الأوضاع الصعبة التي تواجه الإدارات، فهي مطالبة بتوظيف الأموال وتحقيق عائدات مناسبة، وفي الوقت ذاته ثمة أخطار أساسية لا بد من تفاديها.
وعند استعراض الأصول لدى أي من المصارف الرئيسية الـ 50 في بلدان الخليج، يتبين أن الأصول تتراوح بين المصارف بين 4.4 بليون دولار و100.7 بليون دولار، ما يعني أن القاعدة المالية كبيرة ولا بد من توفير إمكانيات للتمويل تعزز العائدات على الأصول وحقوق المساهمين.
لكن التوسع في عمليات الإنفاق الحكومية بعد زيادة إيرادات النفط واستمرار قيام الحكومات بإنجاز المشاريع الحيوية في القطاعات الرئيسية مثل مجالي المنبع والمصب في قطاع النفط، وقطاعات المرافق والخدمات والبنية التحتية، قد لا تمكن المصارف من زيادة أدوات الائتمان التي يتطلبها القطاع الخاص.
وهنا يتضح لنا طغيان الســياسات المالية في بلدان المنطقة وتهميش السياسات النقدية، التي لا يبدو أنها ذات تأثير مهم في مجريات الحركة الاقتصادية.
وثمة محاولات لتأكيد دور النظام المصرفي في الحياة الاقتصادية في شكل أوثق، لكن ذلك يتطلب معالجات هيكلية للواقع الاقتصادي وكيفية الانتقال من اقتصاد ريعي يعتمد على إيرادات النفط إلى اقتصاد أوسع قاعدة ومتنوع يعتمد على توظيف الموارد المختلفة، المادية والبشرية، على أسس مختلفة عما هو سائد في الوقت الراهن.
نقلا عن الحياة