مثّلت الصناعات التحويلية أهمية عميقة في التاريخ الاقتصادي، فهي مكنت من تطوير المفاهيم والقيم الاقتصادية وعززت دور أصحاب رؤوس الأموال والطبقة العاملة.
وقبل أن تصبح الصناعة نشاطاً اقتصادياً أساسياً كانت هناك الحرف التي تعتمد على الجهود الفردية وكانت منتجاتها تستخدم في الزراعة التي شكّلت النشاط الاقتصادي الأساسي في مختلف البلدان.
ويؤرخ لقيام الصناعة بالثورة الصناعية (1760 - 1840) التي جرى خلالها الانتقال من الصناعات الحرفية أو اليدوية إلى التطبيقات الآلية.
لكن الصناعات التحويلية شهدت منذ ذلك الحين تطورات مهمة وأساسية، أهمها تعزيز دور التكنولوجيا والابتكارات التي عملت لتحسين كفاءة الإنتاج وزيادته بما خفض تكلفة مخرجات الصناعات المختلفة.
وساهم بروز الصناعات التحويلية في اقتصادات البلدان الأساسية، مثل البلدان الأوروبية والولايات المتحدة واليابان، في تحسين إمكانات اليد العاملة الصناعية وتطوير قدراتها المهنية والارتقاء بمستوياتها المعيشية.
ولا شك في أن المجتمعات الصناعية واكبت التطور الصناعي بالانتقال إلى مجتمع العلوم والمعرفة فارتقت الأنظمة التعليمية وتنوعت فروع المعرفة، خصوصاً في الهندسة والعلوم والرياضيات والطب والاقتصاد والمحاسبة.
ويعني ذلك أن التطور الاقتصادي في تلك البلدان ساهم في إيجاد طلب على المتعلمين وأصحاب الاختصاص، وعزز أهمية الارتقاء بالتحصيل العلمي وتوافر يد عاملة ماهرة ومدربة ومؤهلة وفق متطلبات كل نشاط صناعي.
وزاد التطور الصناعي الطلب على المنتجات الأولية، سواء من الزراعة أو المناجم أو النفط، ما ساهم في تكامل العمل الاقتصادي بين مختلف البلدان المتطورة أو النامية.
لكن في العصر الحديث، وبعد استيعاب ما جرى على مدى القرون الثلاثة الماضية، وبعدما أصبح معلوماً توزيع المواد الأولية والصناعات التحويلية بين البلدان، أصبح من الأهمية بمكان تحديد الميزات النسبية التي يتمتع بها كل بلد.
وخلال القرن العشرين، خصوصاً نصفه الثاني، اتضح أن بلداناً لم تعد تتمتع بميزات نسبية في صناعات تحويلية معينة.
فمثلاً لم يعد بالإمكان الزعم بأن بريطانيا تملك ميزات نسبية في صناعة السيارات التي أصبحت ذات تكلفة عالية ولا تحظى بطلب واسع داخل بريطانيا وفي أسواقها التصديرية.
كذلك فقدت الولايات المتحدة قدرتها على المنافسة في الصناعات المتعلقة بالأجهزة الكهربائية والإلكترونية، وباتت مستوردة صافية لتلك الأجهزة.
في المقابل، أصبحت الصين تتمتع بميزات الكفاءة الإنتاجية والسيطرة على التكاليف في الصناعات النسيجية والجلدية وغيرها.
ولذلك يمكن الزعم بأن العالم يتجه نحو توزيع العمل الصناعي بين البلدان فتكون هناك بلدان ذات صناعات خفيفة وبلدان تتمتع بميزات مهمة لصناعة السيارات في حين تتميز بلدان بالصناعات المعتمدة على التقنيات العالية والابتكار والعلوم.
ولا بد هنا من التأكيد على أن البلدان الصناعية المتقدمة مثل الولايات المتحدة وعدد من بلدان أوروبا الغربية انتقلت إلى مرحلة اقتصاد الخدمات فقفزت مساهمة القطاعات الخدمية في الناتج المحلي الإجمالي.
تُقدَّر قيمة الإنتاج الصناعي خلال السنوات الأخيرة بـ 12 تريليون دولار سنوياً.
ويتوزع هذا الإنتاج بين الصين بـ 2.3 تريليون دولار والاتحاد الأوروبي بـ 2.3 تريليون دولار والولايات المتحدة بـ 1.8 تريليون دولار واليابان بتريليون دولار، ويتوزع الباقي أي 4.6 تريليون دولار على بقية البلدان.
أما في العالم العربي فلا تزيد قيمة الإنتاج الصناعي عن 110 بلايين دولار سنوياً، وهي أقل بكثير من قيمة النشاط الاستخراجي التي قد تزيد على 450 بليون دولار سنوياً.
وتتراوح مساهمة القطاع الصناعي التحويلي في البلدان العربية بين خمسة وسبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ثمة معوقات أساسية تواجه هذه الصناعات في العالم العربي، من أهمها غياب الحوافز وضعف البيئة المؤسسية وتعطل دور القطاع الخاص وتراجع كفاءة التعليم الجامعي والتعليم المهني.
كذلك لم تكن صناعات كثيرة جرى توظيف الأموال فيها، ذات ميزات نسبية أو قدرات على منافسة المنتجات الأجنبية المستوردة أو المنافسة في الأسواق الخارجية.
وحاولت بلدان الخليج تأسيس صناعات تعتمد على منتجات النفط مثل صناعة البتروكيماويات لكن الأسواق الأساسية لهذه المنتجات لا تزال تحد من الطلب على الصادرات الخليجية من تلك المنتجات لأسباب تتعلق بالأنظمة الجمركية وعوائق الحمائية.
وقامت في مصر وسورية ولبنان والعراق صناعات في قطاعات مثل النسيج والإسمنت والمواد الغذائية لكنها فقدت دورها الحيوي خلال السنوات الخمسين الماضية نتيجة للتحولات السياسية والاقتصادية.
وتوقف عدد من الصناعات التحويلية في بلدان مثل مصر والعراق وسورية لأسباب تتعلق أخيراً بالاضطرابات السياسية أو الإضرابات العمالية.
واضح أن البلدان العربية في حاجة إلى صياغة إستراتيجية للتنمية الصناعية تأخذ في الاعتبار كل العوامل المادية والبشرية وعناصر الميزات النسبية. وثمة بلدان عربية تتمتع بميزات نسبية محددة في صناعات متخصصة مثل الصناعات البترولية أو النسيجية أو الغذائية أو الإنشائية أو غيرها، لكن لا بد من توزيع العمل الصناعي وفق فلسفة التكامل الاقتصادي بين البلدان العربية.
ولاستراتيجية كهذه أن تحدد كيفية الاستفادة من الإمكانات المتاحة في كل بلد عربي، مثل توافر الأيدي العاملة المناسبة وذات القدرات المهنية أو التمويل المناسب لدى بلدان أخرى بالإضافة إلى تحديد المواد الأولية المناسبة لكل صناعة تحويلية.
ولا بد للإستراتيجية من أن تتوافق مع اتفاق السوق العربية المشتركة الموقع عام 1964 مع الأخذ في الاعتبار التغيرات العالمية التي حصلت منذئذ.
نتيجة للتوجهات المعادية للاستثمار الأجنبي قبل عقود قليلة من الزمن، جرى تأميم المصالح الأجنبية في مختلف النشاطات الاقتصادية، لكن في هذا العصر الذي تبحث فيه الشركات العالمية عن مواقع جديدة تعزز من كفاءة الإنتاج، على البلدان العربية أن تستفيد من العمل مع الشركات العالمية لتطوير القطاع الصناعي والارتقاء بميزاته النسبية وتأهيله ليكون قادراً على خلق فرص العمل للمؤهلين من العمال العرب.
نقلا عن الحياة