بعد فوز اليسار في اليونان بالانتخابات التشريعية المبكرة ثمة مجال كبير للاختلاف مع دائني البلاد في شأن السياسات المالية والإصلاحات الاقتصادية التي ارتبطت بحزمة الإنقاذ المعتمدة منذ بداية أزمة الديون الحكومية.
واليونان تتمتع بتراث سياسي يميل نحو اليسار منذ بدايات القرن الماضي، بدءاً بالمقاومة اليونانية للاحتلال النازي التي هيمن عليها الحزب الشيوعي اليوناني، وكان يمكن لذلك الحزب الاستحواذ على السلطة هناك بعد هزيمة النازية لولا تخاذل الاتحاد السوفياتي عن دعمه في مواجهة قلق الغرب من وقوع اليونان في الفلك السوفياتي.
وتمكن الحزب الاشتراكي بقيادة جورج باباندريو ثم ابنه أندرياس، من الفوز في الانتخابات مرات خلال العقود السبعة الماضية، وطبق سياسات وبرامج اقتصادية أكثر تودداً للفئات العمالية أو ذات المداخيل المتدنية والمتوسطة بعيداً عن اقتصاد السوق ما أدى إلى تحميل الدولة أعباء مالية عالية ودفع الحكومات اليونانية المتعاقبة إلى الإنفاق بما يزيد عن الإيرادات المتحققة في مقابل استدانة عالية من المصارف المحلية والأجنبية.
لكن هل تتحمل الحكومات اليونانية المتعاقبة أعباء أزمة الديون أم أن النظام المصرفي، المحلي والعالمي، ساهم في تعقيد الأزمة بعدما سهل الحصول على الديون الكبيرة من دون حصافة؟
لا يزيد عدد سكان اليونان عن 11 مليون شخص وبلغ ناتجها المحلي الإجمالي السنة الماضية 250 بليون دولار ما يعني أن معدل دخل الفرد السنوي هو 22 ألفاً و500 دولار.
لكنْ هناك ديون تزيد عن 370 بليون دولار أي أكثر من 150 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لليونان.
واضطرت المفوضية الأوروبية مع البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي (ترويكا الدائنين) إلى تبني برنامج إنقاذ وجرى توفير قروض جديدة خلال السنوات القليلة الماضية لتمكين الحكومة اليونانية من مواجهة التزامات أداء الدين.
بيد أن ذلك جرى وفق شروط تؤدي إلى تغيرات مهمة في السياسات المالية وتبني برامج تقشف دفعت إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة واستغناء العديد من الشركات والمؤسسات في الحكومة والقطاع الخاص عن أعداد كبيرة من العاملين، ناهيك عن رفع الضرائب، خصوصاً ضريبة المبيعات أو القيمة المضافة.
وما من شك في أن تلك السياسات زادت المعاناة المعيشية لفئات واسعة من سكان اليونان.
يقول اقتصاديو حزب «سيريزا» الذي فاز بالانتخابات الأخيرة، إن سياسات التقشف أفقرت اليونانيين ويؤكدون أن الاقتصاد انكمش بنسبة 22 في المئة.
وخسر العمال والمتقاعدون 32 في المئة من مداخيلهم وارتفعت البطالة إلى 24 في المئة (55 في المئة بين الشباب).
وبات من الصعب الاستمرار في تلك السياسات التقشفية من دون توقع اضطرابات تقودها الفئات المتضررة.
وأصبح القطاع الخاص اليوناني ينتقد السياسات التقشفية نظراً إلى ما أدت إليه من تراجع القدرات الشرائية للمستهلكين ما دفع المبيعات من السلع والخدمات إلى التراجع في شكل حاد.
ويرى اقتصاديون، في اليونان وفي الغرب عموماً، أن سياسات التقشف وتراجع معدلات النمو ليست الحل المناسب الذي يمكّن اليونان من مواجهة التزامات الديون، فتعطل القدرة على تحصيل الضرائب من الأعمال ومن المداخيل الخاصة لن يحقق للحكومة الأموال اللازمة لمواجهة خدمة الدين.
ويتوقَّع من تحالف اليسار الحاكم في اليونان الآن أن يطالب بمراجعات شاملة للفلسفة التي تحكم أزمة الديون اليونانية ويعمل لتبني سياسات مالية تهدف إلى رفع المعاناة عن الفئات الشعبية.
وثمة مطالبات لخفض قيمة الديون من خلال إلغاء نسبة مهمة منها ليتمكن اليونان من الانتعاش اقتصادياً.
لكن الحكومة اليسارية الجديدة بدت أكثر واقعية مما كان يتوقع المراقبون فهي أكدت رغبتها البقاء في منطقة اليورو. وهذا التأكيد جاء بعدما شعر اليساريون بأن غالبية اليونانيين لا يرغبون في التخلي عن اليورو.
وربما وصلت الحكومة الجديدة إلى قناعات بأن معالجة الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد تتطلب التفاهم مع الأوروبيين وصندوق النقد الدولي من أجل التوصل إلى حلول ملائمة ومقبولة تكون أقل إيلاماً للشعب اليوناني.
من جانب آخر يرى اقتصاديون أن على الحكومة أن تعمل على تنشيط القطاعات الحيوية مثل السياحة والصناعات التحويلية التي يمكن أن تزيد حصيلة الإيرادات السيادية.
وبينت الإحصاءات الرسمية أن قطاع السياحة ما زال قادراً على تحسين تلك الإيرادات فهو حقق عام 2013 أكثر من 12 بليون دولار. وتحسنت الصادرات السلعية في حين تراجعت الواردات.
وقدرت الحكومة السابقة نمو الاقتصاد العام الماضي بـ 0.6 في المئة، وهو إنجاز إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة الأوضاع الصعبة التي تمر بها اليونان.
ومهما يكن من أمر، ثمة تساؤلات مشروعة حول قدرة الحكومة الجديدة على انتشال الأوضاع المعيشية وكيفية المعالجات اللازمة من دون تحمل التزامات معقولة لأعباء الديون، وكذلك حول إمكانيات التوافق مع الترويكا الدائنة وتعديل شروط الأداء، وإمكانيات الإقناع لخفض الديون.
نقلا عن الحياة