لنتعلم السماحة والإصرار من العرب الحضارم

06/01/2015 0
د. إحسان بوحليقة

استمعت مؤخراً لأحد الباحثين الإندونيسيين يتحدث عن مجموعة من العلماء الذين ترعرعوا في أجزاء من أندونسيا، ثم يغادرونها إلى مكة المكرمة، فيمكثون هناك عقدا أو اثنين من الزمن يحصلون خلالها على العلوم الشرعية بل ويتعمّقون فيها ثم يعودون إلى الأرخبيل، ليمارسوا أدواراً مهمة، وقد استمر ذلك الحال لقرون عدة. وأخذ يعدّد أسماءً لعلماء أعلام عندهم، بل وسرد تاريخ مغادرة كل واحد منهم، ومتى عاد وأين مكث وما أهم مؤلفاته؟

ومن ناحية أخرى، قابلت شاباً مرشّحاً لنيل الدكتوراة من احدى الجامعات المرموقة في الأنثروبولوجيا، كان مهتماً كذلك بدور الحضارم بنشر الإسلام في شرق آسيا، وخصوصاً الأرخبيل العظيم الذي يضم أندونسيا وماليزيا وسنغافورة.

وأخذت تقفز في ذهني أسئلة من نوع: مَن نشر الإسلام في أندونسيا؟ هل هم التجار العرب الحضارم؟ أم الصينيون؟ ومهما تعدّدت الأسئلة، لكن تبقى الحقيقة الأهم، وهي أن أكبر تجمّع إسلامي على وجه الأرض لم يَدخل في الإسلام عنوة أو بالقوة، بل دخل سلماً وبالقدوة الحسنة. هناك من لا يريد أن يفهم هذه الحقيقة التاريخية، ويعتقد أن تضييق كل واسع هو الحل.

تحدثت مع البحّاثة الشاب مطولاً، فأخذ يبيّن أن العرب الحضارم الذين استقروا في جزر الأرخبيل ليسوا بالكثرة، ولكن تأثيرهم كبير، ويمكن ارجاع ذلك لأسباب، لعل أهمها: القدوة الحسنة باتباع تعاليم الإسلام السمحة، والحرص على التمكن من العلم الشرعي واللغة العربية، وذلك عن طريق الإبقاء على علاقاتهم مع البلد الأم دونما انقطاع، وأن ذلك التواصل المستمر لم ينقطع إلا أيام الحرب الباردة وانغلاق بعض البلدان التي اتبعت الاشتراكية أو الشيوعية، التي منعت (أو قنّنت) حرية المغادرة والسفر، واستطرد: أن الأمر نفسه ستجده من جانب آخر، وإن لم يك له صلة بالحضارم، هو عندما انغلقت الصين الشيوعية، فأثّر ذلك على الصلات الحضارية بين المسلمين هناك ومحيطهم الآسيوي.

أُدرك أن الموضوع متشعب وواسع، مما لا يتسع له المجال هنا، لكنه يتسع للقول: إنه من المفيد التمعّن في التجارب الثرية من حولنا ودراستها والتعرف على تأثيرها وتبعاتها عبر الزمن، واستخلاص العبر والدروس، وأجدُ أن آسيا تختزن الكثير، مما يمكن أن نصنّفه "أسرارا" أو خبايا، ليست لأنها مجهولة أو مبهمة حقيقةً، ولكن لأننا لم نأبه، كعرب، في اكتشافها والتعرف عليها عبر جهود منهجية وبحثية جادة ومتتابعة، وهذا محل استغراب وتقصير، لاسيما أن الغرب قد اهتم بذلك منذ قرون، وأدرك بعض أبعاد تلك العلاقة، ووظّفها لصالح مطامعه الاستعمارية والاقتصادية. فكيف لا نستكشفها لنتعلم منها الجهود الحثيثة التي بُذلت من قبل أجيال متعاقبة من التجار العرب للهجرة لتلك الأماكن والسعي فيها بمنهجية التعمير والبناء والاقبال على ما ينفع الناس، وبعد أن زُرِعَتّ بذرة الرسالة السمحة أخذ أهل تلك البلاد يسعون سعياً لإرسال الطلاب النجباء للحرمين الشريفين بقصد التعلم والتبحر في العلوم الشرعية، ثم يعودون لبلادهم للتأليف والافتاء ونشر العلم.

تلك الجهود التي استمرت قروناً أثمرت في تكوين أكبر تجمع إسلامي بلا منازع- بسماحة ومحبة-، وللتذكير يبلغ عدد سكان أندونسيا 253 مليوناً، وتقارب قيمة ناتجها المحلي الإجمالي حوالي 900 مليار دولار، فيما تعداد ماليزيا نحو 30 مليوناً، وتنتج سنوياً ما قيمته 315 مليار دولار.

 

نقلا عن اليوم