قد يتساءل اقتصاديون عن الفائدة من مراجعة السياسات الاقتصادية التي اعتمدت في بلدان الخليج منذ بداية إنتاج النفط قبل ما يزيد على ستة عقود، وهل بالإمكان واقعياً إنجاز أية تعديلات هيكلية مناسبة تؤدي إلى تحديث البنية الاقتصادية في بلدان المنطقة؟
ربما تكون الفوائد محدودة الأثر والقيمة العملية ولكن، تظل هناك أهمية للدراسة التي ربما تساعد على تفعيل الإصلاحات الخجولة التي بدأت بلدان الخليج تبنيها أخيراً.
معروف أن بلدان الخليج كانت في أواخر أربعينات وأوائل خمسينات القرن الماضي بلداناً فقيرة.
لذلك، عندما تحققت لها إيرادات مالية مهمة من واردات النفط، رأى حكامها أهمية العمل على توفير حياة ومعيشة ملائمة لشعوبهم، ولذلك أنفقوا أموالاً مهمة على البنية التحتية والمرافق حيث تم إنشاء شبكات الكهرباء وتحلية مياه البحر لتوفير المياه الصالحة للشرب والاستخدام، وعملوا على توفير الطرق وبناء المدارس وإقامة المستشفيات والعيادات في مختلف المناطق.
وكان على بلدان الخليج استيراد أيدٍ عاملة من مختلف البلدان العربية والآسيوية للقيام بالمهام التي تتطلبها هذه المشاريع وتشغيلها.
هناك اقتصاديون ينتقدون الاعتماد على العمالة الوافدة من دون تبني برامج لتأهيل المواطنين لأداء الأدوار التي يقوم بها الوافدون.
وكان من المفترض أن يؤدي التعليم إلى تحقيق الاحتياجات اللازمة من العمالة الوطنية على مدى زمني منظور، ثم إلى خفض الطلب على العمالة الوافدة. هذه المسألة أصبحت شائكة لدرجة كبيرة ما عطل عمليات إصلاح سوق العمل في بلدان المنطقة، خصوصاً في الكويت والإمارات وقطر وعلى درجة ما في السعودية.
وصحيح الزعم بأن برامج التعليم الأساسي والتعليم العالي وفي الخارج ساهمت في توفير أعداد كبيرة من المؤهلين في مختلف المهن مثل الأطباء والمعلمين والمهندسين والعاملين في المجالات الاقتصادية والمحاسبين.
كما وفرت البرامج التعليمية الأخرى عناصر في المهن المساندة، لكن ما زال هناك قصور في توفير يد عاملة وطنية ماهرة لتشغيل المرافق الحيوية والعمل في القطاع الخاص.
أي أن التعليم لم يعزز أنظمة التعليم المهني وكسب المهارات الوظيفية الملائمة، بل إن أنظمة التوظيف الحكومية لم تشجع المواطنين على العمل في مثل تلك المهن والوظائف نظراً إلى الرواتب والأجور والحوافز الأخرى التي يتنعم بها العاملون في الحكومة والقطاع العام.
وخلال السنوات الأخيرة، وبعد الزيادات المهمة في أسعار النفط، ارتفعت المخصصات المحددة للرواتب والأجور والدعم في الموازنات الحكومية بوتيرة عالية.
خلال العقود الطويلة الماضية ومنذ بداية عصر النفط في الخليج، جرى توسيع لدور الدولة الاقتصادي بدرجة غير مسبوقة وتحملت الدولة مسؤوليات إدارة القطاعات الحيوية مثل النفط والمرافق، ناهيك عن الرعاية الصحية والتعليم.
كما أخذت على عاتقها توفير السكن للمواطنين في مقابل أعباء مالية عالية. لذلك، لم يعد للقطاع الخاص ذلك الدور المحوري في النشاط الاقتصادي، واقتصر على أعمال التجارة والتوزيع السلعي وأعمال القطاع العقاري وأنشطة الصناعات التحويلية، وعادة تلك التي لا تمت بصلة للقطاع النفطي.
هكذا، أصبحت مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي بحدود الـ30 إلى 35 في المئة من الناتج في أي من بلدان المنطقة، بل إن توظيف المواطنين لم يعد شأناً مهماً للقطاع الخاص نظراً إلى عدم توافر العاملين المؤهلين له من بين المواطنين أو لارتفاع التكاليف، في وقت يجد عمالاً وافدين بأجور متدنية نسبياً من دون قيود على إجراءات التوظيف.
وعلى رغم السياسات الجديدة المتبعة لتشجيع منشآت القطاع الخاص على توظيف مواطنين، فإن التحول الحقيقي لن يحصل بسرعة .
يذكر هنا أن منظومة القيم في المجتمعات الخليجية كرست مفاهيم لا تتناسب مع معايير العمل الجاد والمنتج بعد أن تفشت السياسات الريعية والهادفة إلى توفير الوظائف في القطاع الحكومي من دون مبررات اقتصادية موضوعية، لتمكين المواطنين من الحصول على مداخيل مجزية.
فهل بالإمكان تبني سياسات مختلفة في بداية عصر النفط لتأكيد الاعتماد على اليد العاملة الوطنية من دون التوسع في الاعتماد على الوافدين، ثم ما هي الآليات والبدائل الملائمة لتحقيق ذلك؟ وما هو الثمن التنموي الذي يجب دفعه، وكيف كان على الحكومة أن تتوزع الأدوار مع القطاع الخاص؟
قد يرى بعضهم أن هذه الأسئلة تظل مجرد محاولات نظرية لاستقراء نماذج اقتصادية بديلة.
ربما تكون الملاحظة صحيحة ولكن الأمر يستحق إنجاز دراسات لما جرى على مدى العقود الماضية لاكتشاف مواطن القوة والضعف في السياسات الاقتصادية التي اتبعت، ومن ثم تحديد كيفية إصلاح ما يجب من سياسات وتعزيز السياسات التي أثبتت جدارتها، وهي دراسات قد لا تكون يسيرة.
هناك دراسات أجريت لاقتصادات بلدان المنطقة تشير إلى أهمية معالجة الاختلالات، خصوصاً ما يتعلق بدور الدولة والأنماط الإنفاقية الحكومية وتواضع دور القطاع الخاص، وانخفاض مساهمة اليد العاملة المحلية في سوق العمل.
مثل هذه الدراسات قد يكون مفيداً لصناع القرار لتبني فلسفات اقتصادية جديدة تمكن من تعزيز التوجهات الإصلاحية وتؤدي إلى القدرة على مواجهة التقلبات في أسواق النفط والاحتمالات الممكنة في اقتصادات الطاقة.
غني عن البيان أن المطلوب، أيضاً، هو تحرير المجتمعات من المفاهيم التي تكرست بفعل سياسات الريع وتمكين صناع القرار من تجاوز النهج الشعبوي الذي يحدد السياسات المالية وغيرها.
هذه تحديات قاسية تواجه حكومات بلدان الخليج.
ونأمل في أن يؤدي التراجع الراهن في أسعار النفط إلى تبني فلسفة واقعية وعقلانية تستفيد من تجارب الماضي.
نقلا عن الحياة