تلعب النمذجة الاقتصادية الكلية دوراً مهماً في بناء ورسم السياسات الاقتصادية من خلال منح صانعي القرار أدوات كمية تمكنهم من تجربة تأثير السياسة الاقتصادية في بيئة بيانات تجريبية قبل تطبيقها على الواقع، مما يسهم في تقليل المخاطرة، وزيادة احتمالية تحقيق الأهداف المرجوة. إذ تحمل السياسات الاقتصادية، والقرارات التنظيمية، والمشروعات الاستثمارية التنموية أثاراً متباينة على مختلف القطاعات والوحدات الاقتصادية، فقد تبدو سياسةٌ اقتصاديةٌ ما كسياسة ذات آثار إيجابية على الاقتصاد، إلا أنها في الحقيقة قد تؤثّر بشكل سلبي على وحدات أو قطاعات اقتصادية معينه، مما يستلزم قياس المنافع المرجوة، ومقارنتها بالسلبيات المتوقعة لمعرفة الأثر الكلي على الرفاه الاقتصادي. لذا يُعد رسم السياسات الاقتصادية أمراً بالغاً في التعقيد إذ يتطلب فهماً عميقاً للعلاقات المعقدة بين الوحدات والقطاعات الاقتصادية، وفهماً كمياً مقاساً لكيفية تفاعلها مع بعضها ليتمكّن صانعو القرار من فهم المشهد الاقتصادي كاملاً.
فعندما تقرر حكومة ما تقديم دعم للاستثمار في صناعةٍ ما، فمما لا شك فيه أن لهذا أثراً مهماً لتحفيز الاقتصاد، ودعم التنمية، ولكنه أيضاً قد ينطوي على تأثيرات سلبية ممكنه مثل زيادة الضرائب، أو زيادة الدين العام لتوفير التمويل اللازم لهذا الدعم. كما أنه قد يؤدي إلى آثار سلبية على صناعةٍ أخرى، مثل انتقال العمالة للصناعة، أو القطاع المدعوم، وشحها في الصناعات الأخرى، وما يتبع ذلك من نشوء قوة سوقية للمنتجين، أو للعمال في سوق عمل هذه الصناعة، أو تحول الطلب إلى الصناعة المدعومة بدلاً من الطلب على الصناعات الأخرى، وهكذا. هذه الآثار المتباينة لا تحدث نتيجةً لتغير السياسات الاقتصادية فحسب، بل حتى في حال تغيير التنظيمات الاقتصادية، وتنظيمات الأسواق. مثلاً، عند صدور تنظيم يسمح بنسبة تركز أعلى في سوق سلعةٍ ما، أو السماح بالاندماجات والاستحواذات للشركات العاملة في هذا السوق لرفع قدرة الشركات المحلية على التنافس في الأسواق العالمية مثلاً، فهذا القرار ينطوي على تأثيرات على سوق العمل، والتوظيف ومعدل التركز في سوق العمل، والأجور وممارسات القوة السوقية وغيرها.
لذلك عملت العديد من المؤسسات الاقتصادية الدولية، والبنوك المركزية، ووحدات أبحاث السياسات الاقتصادية في المؤسسات الحكومية المختلفة على إنشاء نماذج اقتصادية كلية تشرح التفاعلات بين الوحدات الاقتصادية، وتفسّر سلوكها، وتقيس مدى استجابتها للسياسات. على سبيل المثال لا الحصر، النموذج الهيكلي لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (FRB/ US- Federal Reserve Board/US Model)، ونموذج التوازن العام الديناميكي العشوائي للبنك المركزي الأوروبي (NAWM -New Area-Wide Model)، وأيضاً النموذج شبه الهيكلي للبنك المركزي الأوروبي، (ECB-BASE - Backward-looking Aggregate Supply, Aggregate Demand Model)، وغيرها من النماذج.
يمكن تعريف النمذجة الاقتصادية الكلية بأنها إطار تحليلي يُستخدم لوصف وتوقع سلوك الاقتصاد الكلي، وسلوك الوحدات الاقتصادية بداخل هذا الاقتصاد، مثل الحكومة، والأسر، والشركات، والقطاعات، والصناعات، ويوضح العلاقات فيما بينها، ويساعد في تقييم تأثير هذه العلاقات على قراراتها، وعلى المتغيّرات الاقتصادية الكلية مثل الاستثمار، والاستهلاك، والتوظيف، وغيرها. وتعمل النماذج الاقتصادية الكلية ذلك من خلال توفير إطار كمي، وبيئة عمل تجريبية تسمح بمحاكاة كيفية تأثير السياسات أو الصدمات الخارجية المختلفة على الوحدات الاقتصادية، وبناء سيناريوهات مختلفة تمنح صانعي القرار الاطلاع على التأثيرات المحتملة لعدة خيارات متاحة.
بدأت النمذجة الاقتصادية بنماذج الانحدار القياسية، والتي لا تُعد نماذج كليه، وإنما محاولة لتمثيل العلاقات بين المتغيّرات الاقتصادية محل البحث، ولكنها انتُقدت لافتقارها للأساس النظري الاقتصادي، ومعاناتها من أخطاء التوصيف. ومع التطور المتزامن للإحصاءات الاقتصادية، والأساليب الاقتصادية القياسية، والأساليب الإحصائية، والتقنيات الحاسوبية القادرة على التعامل مع البيانات الكبيرة، تطورت النمذجة الاقتصادية الكلية بشكلها الحالي.
وتتعدد أنواع النماذج الاقتصادية الكلية المستخدمة في تحليل الأثر الاقتصادي، فمنها ما يركّز على التفاعلات بين القطاعات الاقتصادية، والصناعات المختلفة، ويهدف إلى تحليل الدرجة التي تندمج بها صناعة، أو نشاط معين في الاقتصاد، مثل، نماذج المدخلات والمخرجات. ومنها ما يهدف إلى التحليل الشمولي للعلاقات بين الوحدات الاقتصادية المختلفة مثل، نماذج التوازن العام.
تعتمد نماذج المدخلات والمخرجات على استخدام جداول المدخلات والمخرجات. وهي جداول تتضمن بيانات سلاسل التوريد بين القطاعات، وبين المدخلات المستخدمة في الإنتاج في كل قطاع. وعند تحليل أثر سياسة ما فإنه يتم تحليل أثرها على مدخلات القطاع المستهدف بالسياسة، وبالتالي تأثيرها على مخرجات ذلك القطاع، والتي تمثّل مدخلات لقطاع آخر، مما يُساعد في تقدير الأثر الكلي على قطاعات الاقتصاد. مثلاً، عند اتخاذ الحكومة قرار بالاستثمار بإنشاء مصنع للحديد والصلب، فإن هذا القرار سيؤثّر على الطلب على مدخلات القطاع الصناعي من العمال ورأس المال، وبالتالي سيؤثّر على التوظيف، وعلى الطلب على السلع الرأسمالية المستخدمة في إنتاج الحديد والصلب، كما سيؤدي إلى زيادة الإنتاج من الحديد والصلب، والتي تؤثّر على قطاع الإنشاءات لكونها مدخلات له، وهكذا يتم حساب التأثيرات المباشرة، وغير المباشرة في الاقتصاد ككل. تتناسب نماذج المدخلات والمخرجات بشكل جيد مع التحليل قصير الأجل، ومع تحليل التغيرات الصغيرة في السياسات، ويمكن اعتبارها نماذج توازن عام مبسطة، ولكن نماذج التوازن العام تٌعد أكثر تعقيداً من نماذج المدخلات والمخرجات.
يتم بناء نماذج التوازن العام بناءً على أسس النظرية الاقتصادية الجزئية للوصول إلى نموذج اقتصادي كلي عام. وتنطوي عملية بناء هذه النماذج على تحديد افتراضات تتلاءم مع طبيعة الاقتصاد محل التحليل، وذلك بهدف بناء إطار نظري موصوف بمعادلات رياضية مترابطة تصف سلوك وحدات القرار الاقتصادي في المجتمع، مثل الأسر وملاك رأس المال، المنتجين والشركات، والحكومة، والقطاعات أو الصناعات المختلفة. وتُستخدم هذه المعادلات لوصف كيف تتأثّر قرارات كل وحدة اقتصادية بالوحدات الأخرى، وكيف تتأثّر بالعوامل الخارجية أيضاً. تسمح هذه المعادلات بوصف السلوك الاقتصادي لكل وحدة اقتصادية، وتصف التوازنات الجزئية في الأسواق، والتوازن الكلي في الاقتصاد. وباستخدام الطرق القياسية يتم تقدير هذه النماذج، ومن ثم استخدامها لبحث المسارات المختلفة والاحتمالات الممكنة للآثار التي تنشأ من التغيّر في السياسات أو الأنظمة أو حتى التغيّرات الخارجية. يتم هذا من خلال عمل محاكاة للنموذج لإجراء تجارب تتضمن تغيير السياسات، والأنظمة، ومراقبة تأثيرها على مسارات متغيّرات النموذج.
إن هذه المعادلات الرياضية يتم بناؤها بطريقة تمثّل خصائص الاقتصاد محل الدراسة، فلا يمكن استخدام نماذج موحدة ومتشابهة لكل الاقتصادات، أو تكرار ونسخ النماذج الاقتصادية المستخدمة في اقتصادات أخرى لاستخدامها في الاقتصاد محل الدراسة. لذلك نجد أن آثار السياسات الاقتصادية تختلف من اقتصاد لاقتصاد، ونجد أن كل مجتمع اقتصادي يتأثّر بطريقة مختلفة، حتى ولو تم استخدام نفس السياسات الاقتصادية في كلاهما. كما أن كل نموذج له أهداف محددة يتم بناؤه على أساسها، مثلاً، إذا كان الهدف دراسة التأثيرات المختلفة على قطاعات محددة مثل القطاع الصناعي، والإنشائي، والخدمات وغيرها؛ فإنه يتم بناء نموذج يوضح تفاصيل طبيعة القطاعات الاقتصادية وتفاعلاتها مع بعضها. وإذا كان يهدف لبحث الأثر على سوق العمل، فإنه يتم بناء نموذج يحمل تفاصيل عن سوق العمل، والأجور والمؤثّرات عليها. وإذا كان يهدف لبحث التركز والقوى السوقية، فإنه يتم بناء نموذج يعكس درجة التركز الاقتصادي وآثارها، وكل هذا يكون في إطار نموذج عام يتم فيه تمثيل جميع وحدات القرار الاقتصادي.
لنماذج التوازان العام أنواع متعددة وقد بدأت بنماذج نظرية تصف الاقتصاد، ثم تم تطويرها لتكون قابلة للقياس وتسميتها بنماذج التوازن العام القابلة للقياس، ولإدخال تأثير التغيّرات عبر الزمن، وعامل عدم اليقين تم تطويرها لتكون نماذج التوازن العام الحركية العشوائية.
تركّز نماذج التوازن العام القابل للحساب على تحديد التوازن الكلي للقطاعات الاقتصادية، بحيث يتم تمثيل العرض والطلب في كل قطاع لتحقيق حالة التوازن السوقي، ومن ثم الوصول للتوازن الكلي. هذه النماذج تعتمد على افتراضات بأن الأسواق تنافسية تمامًا، وأن المشاركين في السوق (الشركات والأسر) يتصرفون عقلانيًا، ويعظّمون أهدافهم. وتعتمد هذه النماذج على عملية المعايرة باستخدام جداول المدخلات، والمخرجات، أو المصفوفات المحاسبية الاجتماعية، والتي تتضمن بيانات اقتصادية مفصّلة تعكس تدفقات المنتجات بين القطاعات المختلفة، لذا تُعد نماذج حتمية ذات مسارات محددة ومعروفة. وتُستخدم هذه النماذج على نطاق واسع في تحليل السياسات الاقتصادية والبيئية، وتحليل تأثير التنظيمات الاقتصادية، ومن خلال هذه النماذج يمكن التنبؤ بكيفية تأثير التغيّرات في السياسات على الأداء الاقتصادي. وتُعد نماذج التوازن العام القابل للحساب نماذج ساكنة، مما يعني أن تحليلها يتم في إطار نقطة زمنية محددة، أو للمقارنة بين حالتين من دون التطرق لتأثير الزمن، أي أنها لا تعكس التغيّرات الحركية طويلة المدى التي تحدث في الاقتصاد نتيجة للتغيّرات السياسية أو البيئية.
وبعكس نماذج التوازن العام الساكنة تأخذ النماذج الحركية العشوائية في الاعتبار التغيّرات الزمنية بين الفترات الاقتصادية، وتضيف عنصر العشوائية (صدمات) الذي قد يؤثّر على الاقتصاد مثل صدمات الإنتاجية، أو صدمات الطلب أو الصدمات السياسية. وتعتمد هذه النماذج على تمثيل التغيّرات الاقتصادية بمرور الوقت، إذ تُضاف المتغيّرات الحركية إلى النموذج لتوضيح كيف يمكن للسياسات التأثير على مسارات الاقتصاد عبر الزمن. ويتم تقدير هذه النماذج بطرق قياسية متقدمة مثل طريقة التقدير البايزي، وطريقة الاحتمال الأقصى، ما يجعلها أدوات فعّالة في محاكاة المسارات المحتملة تحت تأثير السياسات المختلفة، وتساعد في فهم كيفية استجابة الاقتصاد للسياسات الاقتصادية عبر الزمن.
ومؤخراً ومع تطور النماذج اللغوية، بدأ الجمع فيما بينها وبين النمذجة الاقتصادية الكلية، وذلك لتطوير نماذج اقتصادية كلية أكثر دقة، وأكثر قدرة على محاكاة السلوكيات الاقتصادية والاجتماعية. على سبيل المثال، بدأت البنوك المركزية باستخدام النماذج اللغوية لبناء ما يسمى بنماذج اللغة للبنوك المركزية، تهدف إلى التحليل والتنبؤ بآثار التغيّرات في السياسة النقدية على الاقتصاد من خلال استخدام نماذج لغة متخصصة تعتمد على الترميز، بحيث يتم تدريبها على مجموعة شاملة من خطابات البنوك المركزية، ووثائق السياسات، وأوراق البحث، والنصوص المنشورة على الإنترنت للتنبؤ بتأثير إعلانات السياسة النقدية بشكل لحظي.
ختاماً.. تُعد النماذج الاقتصادية الكلية أدواتٍ ضرورية لفهم وتحليل تأثير السياسات الاقتصادية، والتنظيمية على الاقتصاد بشكل شامل. فمن خلال محاكاة التفاعلات بين مختلف الوحدات، والقطاعات الاقتصادية، تتيح هذه النماذج إمكانية التنبؤ بآثار السياسات الاقتصادية، وتقديم رؤية شاملة تساعد صانعي القرار على اتخاذ قرارات اقتصادية مبنية على البيانات، ومع تطور التقنيات الحديثة، يُتوقع أن تصبح النماذج الاقتصادية الكلية أكثر دقةً وفعّالية في فهم التأثيرات الاقتصادية المعقدة، وتحليلها، والتنبؤ بها.
المقالة منشورة في النشرة الفصلية التي تصدرها جمعية الاقتصاد السعودية عدد رمضان 1446 هـ / مارس 2025 مٍ
المهم فرص الاستثمار على الشركات الناشئة حق الخدمات التقنية اللي ستحكم العالم الرقمي في السنوات القادمة ايضا في سوقهم المحلي. الاستثمر علي هذي الشركات بكل بساطة منجم ذهب وفرصة بسيطة وسهلة لصنع ثروة يحتاج المؤسسة اللي تدير لك قروشك بشكل حقيقي حكيم ومدروس ويا حسافة على قلتها وعلى البنوك والشركات عندنا , من واقع تجربة الوحيدون بالمطلق هم بنك تجارة كابيتال الاماراتي المعتمد من جميع الجوانب وعملهم ممنهج مدروس مبتكر ومحتلف يعرفون كيف تؤكل الكتف والنتائج من كوكب اخر , وين كنا ووين صرنا من لي معهم سنتين فقط تحولت من طفران متوهق في خريف العمر لصاحب مال ودخل تلقائي فوق التصور الين بديت حياتي من جد , الحياة الكريمة كان شيء سراب لم افهم معناه حتى وصلت لهم