إن كنتَ مثلي فربما واجهت مشكلة عدم توفر البنزين في المحطات في بعض الطرق، وفي بعض الحالات التي تطول فيها فترة نفاد البنزين؛ ترى السيارات مرصوصة على جانب الطريق وقد تركها أصحابها إلى حين انقشاع الأزمة.
وتبدو المفارقة خاصة حين يحدث ذلك في طرق المنطقة الشرقية، منبع البترول الأول.
وربما كانت مثل هذه الحالات متوقعة في بلد مترامي الأطراف كالمملكة مما يجعل من الصعب توفير البنزين في كل محطة أينما كانت، وهي حالات لا تدوم كثيرا على جميع الأحوال، وربما قرأت في الأخبار عن استيراد المملكة للبنزين حينما يستمر النقص فترة.
عندما تواجهك هذه المشكلة ليلاً وأنت في مكان ناءٍ فلا بد أن يسرح بك الفِكر إلى تعقيدات إمدادات البترول وإمكانية نفادها يوماً ما.
وحينها يبدو البترول كما لو كان حدثاً طارئاً في تاريخ الجزيرة العربية الطويل، ظهر فجأة واختفى فجأة، ليُفسح المجال مرة أخرى لوسائل المواصلات التي لا تعتمد على البترول.
ومنطقياًّ، نحن نعرف طبعاً أن استنفاد الاحتياطي النفطي للمملكة يمكن أن يستغرق عقوداً من الزمن. فحسب مستويات الاحتياطي المؤكدة، نستطيع من الناحية النظرية الاستمرار في ضخ النفط بالمعدلات الحالية نحو (60) عاماً.
وصحيح أيضاً أنه قد تظهر اكتشافات جديدة تغير هذه الصورة نحو الأحسن. وقد ترتفع الأسعار بما يجعل من الممكن استخراج البترول من الآبار غير المجدية حاليا. وقد تكون هناك ثورات تقنية في استخراج البترول من تلك الآبار.
ولكن هذه فرضيات غير مؤكدة، كما أن النفط مهما زادت الاكتشافات وتحسنت التقنية سينفد يوما ما.
وهذا لا خلاف عليه. الخلاف هو حول متى يمكن أن يحدث ذلك.
نفاد البترول هي مشكلة واحدة فقط. المشكلة الأخرى هي إمكانية انهيار الأسعار لأي سبب كان.
وهنا يكمن الفرق بين الدول النفطية وغير النفطية. ففي بقية العالم، النفط مصدر للطاقة، يرحبون بانخفاض أسعاره ويحاولون إيجاد بدائل له. وبدؤوا يتحدثون عن "نهاية النفط".
أما عندنا فالنفط هو مصدر الرخاء، وقاطرة النمو الاقتصادي، ليس فقط في قطاع الإنتاج والتكرير، بل في الصناعات التحويلية والبتروكيماويات كذلك. والنفط سلعة التصدير الأولى لدينا، فخلال الأعوام الستة الماضية (2008 - 2013) شكل النفط بين (85) و(89) بالمئة من قيمة الصادرات.
ومن أكثر ما يثير القلق لدى المواطن العادي أن النفط هو المصدر الأول للدخل الحكومي. ففي السنوات الماضية، شكل النفط ما نسبته (90) إلى (93) بالمئة من ذلك الدخل، مما يعني أن الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية تعتمد على النفط بشكل أساسي، مثلها كمثل الطرق والمطارات والدفاع والأمن وغيرها.
أي أن أسلوب حياتنا ومستقبل الأجيال القادمة مرهونة بصحة أسواق النفط وتقلباتها، ولما كان مستقبل النفط غير معروف حقيقةً، فإننا نحتاج إلى تسريع بدائل له كمصدر للدخل والنشاط الاقتصادي.
الانخفاض الحاد في أسعار النفط، الذي بدأ في شهر يونيو وأدى إلى انخفاضها بنسبة (25) بالمئة يُظهر بجلاء هذه الإشكالية، التي وضحها أكثر صندوق النقد الدولي في تقرير جديد (آخر) أصدره الأسبوع الماضي.
فقد راجع تقديراتها لمعدلات النمو الاقتصادي لدول الخليج، وهو الآن يتوقع أن ينخفض معدل النمو إلى (3.7) بالمئة في عام 2015، بدلاً من (4.5) بالمئة، وأن تخسر هذه الدول نحو (175) مليار دولار إذا ظلت الأسعار عند معدل (75) دولاراً للبرميل، وأن ذلك سينعكس سلباً على ميزان المدفوعات والميزانيات الحكومية.
وبناءً على هذه السناريوهات المتشائمة، التي يختلف حولها الاقتصاديون، فقد غير الصندق من توقعاتها لميزانية المملكة العام القادم. فقد كان سابقاً يتوقع ألا تسجل عجزاً قبل عام 2018، ولكنها الآن يتوقع أن تسجل عجزاً العام القادم (2015) إذا استمرت الأسعار في الانخفاض، واستمر الإنفاق على معدلاته الحالية.
وتستطيع بعض دول المجلس الاستمرار في الإنفاق بالمستويات الحالية فترة، لأنها كونت احتياطات مالية كبيرة خلال السنوات الماضية، ولكن ذلك لا يمكن أن يستمر دون الإضرار بصحتها المالية، خاصة في الدول التي ليست لديها احتياطات مالية كبيرة.
وتعتقد منظمة (أوبك) أن الانخفاضات السعرية الحالية موقتة، ولن تكون لها تداعيات على المدى الطويل. ولكن بعض بنوك (وول ستريت) ترى العكس، ففي الأسبوع الماضي خفض البنك الاستثماري (جولدمان ساكس) توقعاته لسعر النفط إلى (85) دولاراً في الربع الأول من عام 2015، و(75) دولارا لبقية العام.
ويحرص مسؤولو (أوبك) على طمأنة الأسواق، فقال الأمين العام للمنظمة الأسبوع الماضي في مؤتمر للبترول في لندن إنه يرى أن التوازن سيعود للأسوق قريباً، وأضاف: "نحن لا نرى في الحقيقة تغيرات جوهرية في العرض أو الطلب... لكن مع الأسف، الجميع أصيبوا بالهلع. الصحافة في هلع، والمستهلكون في هلع".
و"التوازن" الذي يشير إليه ربما يعود في المدى المتوسط، أما في المدى القصير والمدى الطويل فمن الصعب تصوره. ففي المدى القصير، انخفضت الأسعار (25) بالمئة خلال الأشهر القليلة الماضية، أما المدى الطويل فغير مؤكد.
ولهذا يجب أن نكون معنيين، ليس فقط بمستويات الأسعار، بل بكيف نجعل احتياطيات النفط تستمر معنا إلى أن نتمكن من تطوير بدائل للدخل والإنتاج الاقتصادي والصادرات غير النفطية.
وفي حين نتأمل أفضل النتائج، فإنه يجب أن نحضر لأسوئها، مهما كانت احتمالاتها قليلة.
ولكن من المهم ألا نصاب بالهلع، فما زالت لدينا خيارات كثيرة، وموارد وفوائض كبيرة. ولكن بعد سنوات، قد لا تكون لدينا هذه الخيارات ويكون الوقت متأخراً لمعالجة الوضع.
وقد أشرت إلى بعض هذه الخيارات الأسبوع الماضي، فلن أكررها.
نقلا عن الوطن