إيداعات أم احتياطات ؟

18/08/2014 3
سعيد بن زقر

من أشهر مقولات جون مينارد كينز قوله: « إن أولئك الذين يعتقدون أنهم أولو علم ومحصنون من التأثير الخارجي الذي يمكن أن يؤدي لأفكار خاطئة، في الغالب واقعون تحت استعباد نظرية اقتصادية خاطئة» ان هذا الوصف يتجاوز الموصوفين لينطبق على كل من يعتقد وصلاً بعلم الاقتصاد ويزعم فهماً عميقاً فيه بينما آخرون يرونه موغلاً في الخطل وفي الاستيعاب والفهم ،فمن تأسره نظريات تقول بأن البنوك تسلف من الاحتياطات (الإيداعات) الموجودة لدى البنك المركزي، اعتقاداً منهم بأن احتياطات قطاع المصارف قابلة «للتسليف» والخروج من البنك المركزي للاقتصاد الحقيقي، هذا الاعتقاد ليس مخطئاً فحسب بل هو ضرب من المستحيلات التي لا تحدث، رغم أن هناك من يحاجج بأن المصارف لا تسلف احتياطاتها التي لدى البنك المركزي إلا في مقابل فائدة اسمية، وهذا أيضا افتراض خاطىء آخر، لأن المصارف غير مقيدة بحجم احتياطاتها النظامية في التسليف أو أن تستلف من الغير ولكن ظلت فكرة استخدام الاحتياطات يلوح بها للتخويف بحجة أن المصارف قد يعاودها تطلع لاستخدام احتياطاتها بصورة فعالة لزيادة أرباحها وإن سُمح لها بذلك فإن التضخم السلبي سيتضاعف ولكن تحت غبار تلك المخاوف تم اعتماد ما يسمى بالتيسير الكمي عبر البنوك المركزية وتلك قصة أخرى لا يتسع هذا المقال لتعقيداتها، ولكن ما أردت الإشارة إليه أن العمليات المصرفية في الغالب لا تقيد بحجم احتياطات البنوك إذ إن التسليف يُكوَّن ايداعات جديدة وإن ظل البنك مطالباً بالتزام سياسات البنك المركزي ومنها شراء النقد من البنك المركزي نفسه لاستخدامه مقابل الاحتياطات.

ومن ناحية أخرى هناك نظرة تنقصها الدقة تفترض احتفاظ البنك بهامش جزئي من احتياطاته لدى البنك المركزي ومن بعد فإن من حقه تسليف الباقي لمن يطلبه، والخطأ في هذه النظرة تغيِّب فكرة أن عملية التسليف من حيث طبيعتها هي تكوين ائتمان وأن البنك عندما يسلف فإنه يخلق ائتماناً ويقيد في دفاتره المحاسبية الأصول في مقابل الديون بقيد محاسبي كلاسيكي يعرف المبتدىء وهو شائع التداول (منه وله)، والشاهد أن القطاع البنكي في مجمله مقيد فقط بسياسات اقتصادية تتماشى ورغبة الاقتصاد المحلي والرؤية الشمولية في استخدام النقد وبالتالي ليس صحيحاً ربط الاحتياطات بالائتمان أو أن الائتمان نفسه يتم من احتياطات (إيداعات) لأن طبيعة المال ( الفيات) أنه يأتي من قاعدة بيانات بالحاسب الآلي ورب سائل عن النقد الذي يدفع للمقترض فإنه بالطبع يُشترى من البنك المركزي باعتباره مصدر العملة الوطنية ومحتكرها.

هذه الخلفية مهمة بأهمية العمليات المصرفية وتلازمها بالعملية التنموية والنمو الاقتصادي ، ولهذا يرى كاتب هذه السطور الاسهام في تصويب بعض المفاهيم الاقتصادية ويحسن توظيفنا لممارسات مالية ومصرفية صارت مقبولة وكأنها صحيحة وأنها تُحسن صنعا في التنمية والاقتصاد بينما هي تمضي في الممارسة والنهج الخاطئ.

وإن كان لذلك نصيب من صحة فإن الايداعات المصرفية تأتي من مصدرين فقط فهي تأتي من اقتراض جديد أو تتولد من عجز في ميزانية الحكومات وهو انعكاس لعدم قدرة الايرادات الحكومية السنوية على تغطية النفقات والعجز الحكومي قد ينجم من ترهل الجهاز الإداري الحكومي أو من إنفاق على التسليح أو من توسع في عمليات التنمية أو قد ينتج من اتباع سياسة تمويل بالعجز كما هو الحال في مصر وكثير من دول العالم العربي وكل ذلك له ارتباط بالعمليات المصرفية مما يستلزم استيعاب أمثل للإحتياطات ودور المصارف في التنمية ليصبح أكثر وضوحا من حيث الفصل بين وظيفة الايداعات ودور الاحتياطات وعلاقة ذلك بأنظمة البنك المركزي وشراء العملة الوطنية منه.

أشير لذلك على افتراض بأن الاقتصاديات التي تبالغ في الحذر من تسهيل الاقتراض ومن الحد من الانفاق الحكومي قد ينعكس ذلك سلبا على معدل الصرف على المشاريع وعلى الانفاق العام لتلازمه بمستوى المعيشة ومعدل التوظيف الشامل.

ولأن الاقتصادات التي تضاعف من التمويل بالعجز قد ينعكس ذلك رفعا بحجم الدين العام وكلفة الاستثمارات وتدهور القوة الشرائية للعملة المحلية مع ازدياد حدة الضغوط التضخمية وارتفاع الأسعار.

والشاهد (أن فوق كل ذي علم عليم) وليس ثمة إنسان محصن ضد الخطأ.

نقلا عن المدينة