الرواتب مجرد أرقام إلكترونية «1»

12/02/2023 1
د. محمد آل عباس

كل مدخراتنا أصبحت في شكل أرقام إلكترونية تظهر في كل مكان، في جهاز الحاسوب في المنزل والجوال والعمل وأجهزة الصراف، أي إنها معنا أينما كنا "ليس بشكلها المادي البحت"، يمكنك الآن وأنت تقرأ هذا المقال التأكد من مدخراتك، وكم بقي منها بمجرد الضغط على أرقام جوالك، إذا أصبحت العملة في أسمى شكل من أشكال سهولة الحمل والنقل، لقد كانت هذه هي الكلمة السحرية التي تم إقناع البشر على طوال معيشتهم في هذه الأرض أن حمل العملة أفضل من حمل السلع، فإذا كنت لا تستطيع أن تحمل 100 كيس من القمح معك أينما ذهبت، حتى تأكل منها عندما تريد، فإنه يكفيك حمل قيمتها معك من العملة وتشتري منها ما تحتاج إليه فقط أينما ذهبت، شعور الذهب في يد أحدنا هو شعور مليء بالثقة والقدرة على الوصول إلى أي سلعة في أي وقت، ولهذا فكلما جمعنا الذهب زاد شعورنا بالأمان، لكن كيف تم إقناع العالم بترك الذهب في البنوك وعدم حمله، لقد حدث هذا قديما في القرن الـ17 عندما ظهر بنك أمستردام وكان يقبل الذهب فيقوم بوزنها للتأكد من محتواها الحقيقي وما تساويه، ويعطي مالكها بيانا أمينا في شكل وديعة ثم أنشئت بنوك مماثلة في دول أخرى.

لقد أصبح البنك ضامنا بعدم الغش في الذهب ووزنه وعندما كان المودع يطلب تحويل الوديعة إلى أحد ما "نتيجة البيع أو أي اتفاق آخر"، يطلب تحويل الوديعة إلى الدائن، "يستخدم بيان البنك كوسيلة للدفع"، فيتم نقل الوديعة "ذهبا" إلى بنك الدائن الجديد، ومع مرور الوقت أصبحت الثقة ببيان البنك أكثر ثقة من الذهب في أيدي الناس، إنها الثقة تلك العبارة السحرية التي أقنعت العالم بقبول ورقة بدلا من ذهب حقيقي.

تلك الثقة نفسها التي جعلت الولايات المتحدة ترفض ربط الذهب بالدولار، ليصبح الذهب مجرد سلعة، ولم يعد نقدا من ذلك الحين، ففي أوائل القرن الماضي تسيدت الولايات المتحدة العالم صناعيا وأصبحت سلعها مطلوبة في كل مكان، فتزايد الطلب على ورقتها النقدية حتى غدت ضرورة لكل دولة تشتري من الولايات المتحدة، وبات لزاما على الولايات المتحدة أن تطبع كمية من الورق تساوي كمية المنتجات التي تتم صناعتها.

لقد كان العالم يثق بالولايات المتحدة أنها ستطبع الدولار بقدر ما يعمل العامل الأمريكي، أي أن قيمة الدولارات الموجودة يساوي "قيمة" ساعات العمل التي قدمها العمال الأمريكيون، لذلك فإن التوازن مهم جدا بل حتمي للحفاظ على الأسعار، لقد كان الطلب العالمي على ما تنتجه الولايات المتحدة من سلع "غذائية وغيرها" في تزايد كبير، وفي الوقت نفسه لم يكن إنتاج العامل في أي دولة أخرى له قيمة إنتاج العامل الأمريكي، لأن دول العالم كانت تطلب سلع الولايات المتحدة ولا تستطيع تقديم شيء بالمقابل، "لا ذهب ولا سلع"، لذلك كانت الولايات المتحدة تقرضها تلك السلع أو تقرضها دولارات لتشتري بها تلك السلع.

هنا أصبح الدولار الأمريكي هو الثروة وقبل العالم ذلك الدولار، طالما أن الحكومة الأمريكية صادقة ويمكن تحويل الدولار إلى سلع وخدمات في أي وقت، "لقد أصبحت ساعة العمل للعامل الأمريكي هي مقياس القيمة في العالم"، وبهذا فإن سعر الصرف أصبح مسألة خطيرة وسياسية واقتصادية معقدة، كيف نقيس إنتاج عامل صيني مقابل إنتاج عامل أمريكي، كيف نفسر الاختلاف بينهما.

طبعا عدم التوازن في القيمة هذا جعل المنتجات الصينية أكثر طلبا، لكن ليس هذا محل النقاش، بل كيف انتقلنا إلى الأرقام الإلكترونية.

عندما استطاعت "مايكروسوفت" في منتصف التسعينيات تحقيق اختراق كبير جدا للمعالجات الإلكترونية، التي سرعت بشكل مذهل عمليات الحاسب الآلي، أصبح العالم أمام ثورة مخيفة جدا، لقد تغير كل شيء من ذلك الحين.

فعمليات تحويل الأموال أصبحت تتم بسهولة أكبر مع ما سمي بأنظمة الدفع ونظام الدفع هو النظام الذي يستخدم لتسوية المعاملات المالية ذات القيمة النقدية من خلال شبكة تشغيلية تربط بين الحسابات البنكية وتوفر التبادل النقدي باستخدام الودائع المصرفية.

بمعنى أبسط، أصبحت يمكن نقل "قيمة" النقد بين البنوك مباشرة، فبعد ما كان عملية تحويل الأموال من حساب في بنك (أ) إلى حساب في بنك (ب) تأخذ عدة أيام، حيث يأخذ موظف البنك ورقة التحويل ويذهب إلى غرفة المقاصة في البنك المركزي يقابل موظف البنك الآخر ويعطيه التحويل، وتتم بين البنوك في الدول والمناطق البعيدة بالتيلكس، أصبحت الآن وفقا لأنظمة الدفع في دقائق معدودة، أصبحت الثقة بأنظمة الدفع الإلكترونية كبيرة جدا، لم تعد هناك حاجة إلى الورق من دولار أو ريالات بين البنوك والفروع، ولم تعد سيارات البنوك تمر في المدن لتأخذ الأموال من الفروع للبنك المركزي، حلت الأرقام الإلكترونية محلها تماما، وبقي النقد في البنك المركزي لم يعد يتحرك إلا عند الطلب، قد تلاحظ بسهولة أن أنظمة الدفع هي مجرد دفاتر محاسبية إلكترونية تنقل الأرصدة بين البنوك، ومع تنامي هذه الظاهرة والتقدم التكنولوجي أصبحت الرواتب تودع في الحسابات كأرقام إلكترونية فقط، لم تكن هناك أموال على شكل ورق مقابل كل راتب.

لم يعد البنك المركزي مجبرا على طباعة كل الرواتب على شكل نقد ورقي، الورق فقط أصبح لتغذية الصرافات الإلكترونية التي انتشرت في كل زاوية ومكان، ومع مرور الوقت أصبحت البنوك ترفض الصرف ورقا لأي مبلغ إلا إذا كانت الصرافات لا تتمكن من دفعه، هكذا أصبحت رواتبنا عبارة عن أرقام في دفاتر محاسبية إلكترونية لا نحصل عليها ورقا ولا ذهبا، إلا إذا قمنا بذلك بشكل شخصي كأن تذهب إلى الصرافات وتقوم بصرف الراتب نقدا وكاملا ... يتبع.

 
 
نقلا عن الاقتصادية