هل يمكن الاستهداء بتجربة أوروبا الشرقية لإنجاز عمليات تحول اقتصادي في البلدان العربية؟ هذا السؤال مطروح على المسؤولين في عدد من البلدان العربية بعد نجاح بلدان أوروبا الشرقية في التحرر من أنظمة الاقتصاد الشمولي بعد سقوط المنظومة الاشتراكية عام 1989.
هذه البلدان تحولت إلى نظام اقتصاد السوق بدرجة كبيرة وأقامت شركات عالمية كثيرة مصانع وفروعاً لها فيها، مستفيدة من ميزات نسبية لديها.
وتحسنت مستويات المعيشة بدرجة معقولة وارتفعت معدلات الاستهلاك للسلع والخدمات. وانضمت البلدان المذكورة إلى الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية.
ويلاحظ زائر هذه البلدان اختلافات كبيرة بين بلدان أوروبا الشرقية والغربية ففي الثانية معالم الحياة الاقتصادية الرأسمالية التقليدية.
وبدأت حكومات أوروبا الشرقية باستدراج المستثمرين من مختلف بلدان العالم مثل الصين وكوريا الجنوبية وبلدان الخليج من أجل توظيف الأموال في مشاريع الصناعات التحويلية أو الزراعة أو المنتجات والفنادق السياحية وعدد من المشاريع السكنية والإدارية.
وربما تكون هناك فرص استثمارية مناسبة تستحق الاهتمام، ولا بد من أن الاستقرار السياسي وانتهاج هذه البلدان المبادئ القانونية والإدارية للاتحاد الأوروبي، سيزيدان جاذبية الاستثمار فيها.
وفي عودة إلى السؤال الاستهلالي، يُذكر أن بلدان أوروبا الشرقية عانت هيمنة الاتحاد السوفياتي وفهمه للنظام الاشتراكي، إلى جانب الدور المهيمن للدولة على الحياة الاقتصادية، لكن بعض هذه البلدان تمتع قبل الحرب العالمية الثانية بحياة سياسية متطورة وبآليات السوق الحرة.
لذلك، لم يكن التحول بعد 1989 صعباً، نظراً إلى التراث المتوافر لدى النخب الاجتماعية وتجذر القيم الملائمة. بل إن الحياة السياسية الملائمة توافرت عبر اعتماد الديموقراطية نظاماً للحكم، وبذلك تمكنت الحكومات من إقرار القوانين والقواعد والأنظمة التي توفر الإيقاع المناسب للتطبيقات الرأسمالية في الاقتصاد.
ومما ساعد هذه البلدان على إنجاز التحولات بسلاسة، توافر قاعدة سكانية مناسبة فأعداد السكان معقولة والنسبة السنوية للنمو السكاني لا تزيد عن واحد في المئة، كما هي الحال في بلدان أوروبا الغربية.
والأهم من ذلك أن النظام الاشتراكي، على رغم مشاكله وعيوبه، أفلح في توفير قاعدة سكانية مؤهلة مهنياً وذات تعليم جيد، ما أدى إلى الاستفادة من قدراتها في الأعمال الاقتصادية الجديدة، وقد استخدِم كثيرون من المهنيين في هذه البلدان في أعمال خارج الحدود في بلدان فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإرلندا. هذه القدرات المهنية حفزت أيضاً كثيراً من الشركات العالمية لإقامة المصانع ووحدات النشاط الاقتصادي المختلفة في هذه البلدان للاستفادة من هذه الميزات.
هل يمكن أن نزعم أن البلدان العربية تملك الميزات ذاتها التي تملكها البلدان الأوروبية الشرقية بما يمكن من إنجاز إصلاحات اقتصادية واسعة النطاق تعزز التنمية الاقتصادية الملائمة للشعوب العربية؟ حاولت بلدان عربية كثيرة أن تتحرر من هيمنة الدولة وتنطلق بموجب آليات السوق الحرة، لكنها ما زالت عاجزة عن تحقيق الطموحات التي حلم بها حكام ومسؤولو هذه البلدان.
إن أي نظرة فاحصة لأي اقتصاد عربي تؤكد معالم الريعية المتشبثة فيه ومصاعب الفكاك منها، فالاعتماد على الدولة في البلدان العربية ما زال مهماً، سواء في البلدان النفطية أو غير النفطية. وتظل النشاطات الاقتصادية الأساسية مرتبطة بالحكومات مثل خدمات الطاقة والبنية التحتية والنقل والمواصلات، ويبقى القطاع العام الملاذ الأساسي لتوظيف المتدفقين إلى سوق العمل.
بيد أن المهم في الأمر هو غياب الإدارة المناسبة لإنجاز التحول الاقتصادي والعجز عن توفير نظام سياسي متناغم مع متطلبات التغيير، وهو النظام الذي يمكن أن يسيطر على البيروقراطية الحكومية ويدفعها إلى تبني مفاهيم الإصلاح. المطلوب هو توفير قناعات سياسية واجتماعية وإدارية تعزز فرص إنجاز التغيير، ومن ثم بناء نظام اقتصادي عصري متوافق مع التحولات التي حصلت في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.
قد تكون هناك بلدان عربية حصلت فيها إنجازات اقتصادية مهمة مثل إقامة صناعات تحويلية أو تطورات في أنظمة التعليم، مثل مصر وسورية والعراق، لكن هيمنة الأنظمة الشمولية عطلت كل معالم التطور والعصرنة والإنجاز الاقتصادي.
وما زالت المعالم الديموغرافية في البلدان العربية من أهم المعوقات للتطوير الاقتصادي، إذ ترتفع معدلات النمو السكاني التي لا تقل عن 2.5 في المئة سنوياً في أي من البلدان العربية، وهي بلدان ذات قواعد سكانية مهمة. أما الهرم السكاني فهو متحيز لمصلحة الشباب وصغار السن فنسبة الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة لا تقل في أي من هذه البلدان عن 75 في المئة.
لذلك، فالتكاليف الاجتماعية ما زالت مهمة في حين تتراجع قدرة الأنظمة التعليمية على توفير مخرجات مناسبة لاقتصادات حديثة.
لا يعني ذلك أن تجربة أوروبا الشرقية في التحول والتغيير مستحيلة التنفيذ في العالم العربي لكنها صعبة ومعقدة. وإذا كانت هناك من فرص لنجاح هذه التجربة أو تطبيقاتها، فالمطلوب توافر حياة سياسية مستقرة وأمن اجتماعي ملائم.
ويتطلب الأمر الاستعانة بخبرات الجهات الدولية المختصة للإشراف على عمليات الإصلاح البنيوي. ومن أهم متطلبات التحول إنجاز تقليص متدرج في عمليات الدعم السلعي ودعم الخدمات والطاقة والوقود وتحويل المخصصات المتوافرة للدعم إلى الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية وتنظيم الأسرة.
ولا بد من توفير البيئة الاقتصادية المناسبة لإقامة المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتلك التي تجذب رؤوس الأموال الأجنبية، كما حصل في بلدان أوروبا الشرقية.
نقلا عن الحياة