يمكن القول: إن المرحلة الراهنة التي تمر بها اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي هي مرحلة مخاض كبيرة باتت تبرز فيها العديد من الركائز التي قامت عليها طوال العقود الثلاثة الماضية، وكأنها استنفذت أغراضها أو تكاد، وباتت المحددات والحقائق المغروزة في الأرض منذ عقود تصطدم بتحديات المستقبل بشكل أعمق، وتلقي بظلال ثقيلة على برامج التنمية القطرية والتكاملية، فلا برامج التنمية القطرية باتت قادرة وحدها على تحقيق التنمية المنشودة بأبعادها الاجتماعية والبشرية والاقتصادية والسياسية، ولا برامج التنمية التكاملية قادرة على التقدم وفق للجداول الزمنية المتفق عليها.
وقد آن الآوان بالفعل للتصدي لهذه التحديات والحقائق بإرادة سياسية أولا، وفكر اقتصادي جديد ثانيا، وإعادة صياغة الرؤى والبرامج الخاصة بمحركات تطوير القدرات التنافسية القطرية لكي تتحول إلى قاطرات للتكامل الاقتصادي والتي قد تتطلب عبورها الحدود الخليجية نحو الأفق العربي الجامع.
الحقيقة الأولى والرئيسية التي كرست موضوعيا وتاريخيا ولا تزال الخصائص الراهنة للاقتصادات الخليجية تدل على أن كافة دول مجلس التعاون الخليجي هي دول منتجة ومصدرة للنفط قد بدأت نهضتها الاقتصادية الحديثة في منتصف السبعينات، وقد استتبع ذلك أن «الدولة» باتت اللاعب والمحرك الأول لعجلة النمو الاقتصادي الخليجي من خلال ما تتحصل عليه من إيرادات نفطية، تقرر هي أوجه صرفها المختلفة، بما في ذلك شؤون رعاية المواطنين ومصالحهم، حتي شبه البعض دور «الدولة» الخليجية بالرعاية الأبوية.
الحقيقة الثانية التي هي محصلة طبيعية للحقيقة الأولى: إن اقتصادات دول المجلس باتت تتشابه تماما من حيث اعتمادها شبه الكامل على النفط، حيث يمثل نحو 70 إلى 80% من الإيرادات الحكومية ومن الصادرات، ويولد الانفاق الحكومي نحو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي أي الدخل القومي.
ولاتوجد ضرائب مباشرة على الدخل، وإنما تمثل بقية الإيرادات رسوم وعوائد استثمار. وقد سعت العديد من دول المجلس إلى تنويع مصادر الدخل، إلا أن جميع هذه المحاولات لم تخرج عن دائرة الاعتماد على النفط والغاز سواء بشكل مباشر كما هو الحال في أكبر نهضة صناعية في المنطقة تقع في المملكة العربية السعودية حيث تبرز الصناعات البتروكيماوية وغيرها، وكذلك صناعة الغاز الضخمة في قطر، أو بشكل غير مباشر كما هو حال تجربة الكويت في توجيه فوائض البترول نحو الاستثمارات الخارجية منذ السبعينيات عبر صندوق احتياطي الأجيال، او تجربة البحرين في تشييد مركز بنوك الأوفشور في منتصف السبعينيات الذي قام هو الآخر على تدوير فوائض النفط الخليجية نحو الأسواق العالمية.
الحقيقة الثالثة والأهم: إن امتلاك الحكومات الخليجية الفوائض المالية في نفس الفترة جعلها تقف جميعها على نفس خط السباق، ثم انطلق كل منها بما يملكه من إمكانات مالية تغنيه عن التكامل مع الآخر في سباق نحو بناء نماذج التنمية الخاصة لكل منها، استنادا إلى اوضاعها واحتياجاتها الخاصة.
صحيح ان السنوات العشر الأولى استنفدت تقريبا في تشييد وتطوير البنى التحتية من شوارع وكهرباء وماء ومرافق وخدمات التعليم والصحة واسكان وغيرها، وصحيح ان تاسيس مجلس التعاون الخليجي جاء مبكرا ليعكس رغبة قيادات دول المجلس في التعاون والتنسيق والتكامل، إلا أن الظروف السياسية والعسكرية والأمنية الأقليمية التي احاطت بتأسيس المجلس، ثم الأزمات التي مرت بها دول المجلس لاحقا قد دفعت بأولويات المجلس الاقتصادية نحو التراجع ردحا من الزمن.
ولكن كي لا نبرر لأنفسنا القصور بأسباب خارجية بحتة، نقول ان قرارات التعاون اصطدمت بجموح عارم للابقاء على «الاستقلالية» والحفاظ على المصالح الخاصة لكل بلد خليجي، حتى وان اقتضى ذلك القفز من فوق الاقليمية نحو العالمية، كما هو شأن دبي حينما فتحت أسواقها وعقاراتها للتملك من كافة الجنسيات، وباتت تعاني اليوم من خلل سكاني خطير، كذلك البحرين التي راهنت على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة.
الحقيقة الرابعة والأخيرة، انه في خضم هذه النماذج من التنمية والاصرار على الحفاظ عليها، شاهدنا في البداية تراجعا حتى في نماذج التكامل والتنسيق الخليجي البسيطة مثل مشروع وكالة أنباء الخليج والجامعة الخليجية وطيران الخليج وغيرها.
لكن الأخطر من ذلك، أن نماذج التنمية تلك باتت تمثل أكبر تحد لمشاريع التكامل الاقتصادي الخليجي الأكثر حيوية. ولو تفحصنا في اسباب تأخر خطوات هذا التكامل ابتداء من التعرفة الجمركية الموحدة التي استغرقت نحو 20 عاما للاتفاق عليها، ثم عدم دخولها حيز التنفيذ الكامل لحد الآن، كذلك عدم تفعيل السوق الخليجية المشتركة، ثم احتمال التأخر شبه المؤكد للوحدة النقدية، لوجدنا ان جذور تلك الأسباب تعود دائما إلى نماذج التنمية القطرية التي شيدت في كل بلد خليجي على حدة، وسوف نعود لهذا الموضوع لاحقا.
وانطلاقا لما سبق، فإن نجاح مجلس التعاون في تفعيل برنامجه الخاص المتعلق بتعميق الاندماج وتبادل المصالح على مستوى القاعدة العريضة للمجلس سيزيد من تسريع إنجازات المجلس، ومن زيادة الدعم والتأثير للمجلس.
وإذا ما تم تحقيق مثل هذا التطوير، وبدأت مسيرة التكامل الخليجي تتجه لمحطة تالية نحو إنجاز الاتحاد النقدي في موعده، فإن ذلك سيكون إيذاناً ببداية الانتقال لمرحلة الاندماج أو الاتحاد الاقتصادي الخليجي، وهو ما قد يتطلب تبني مفهوم جديد للمجلس يتسق وهذه المرحلة، يودع المرحلة الحالية شبه الكونفدرالية، إلى وضع المجلس تحت مظلة مفهوم جديد، ينتقل به إلى آفاق أوسع وأرحب، ويفعل توزيع الصلاحيات والسلطات بين أجهزة المجلس، واتخاذ القرارات بالأغلبية، لتحقيق مزيد من الإنجازات والمناعة السياسية والاقتصادية والأمنية لمجموعة مجلس التعاون الخليجي ولشعوبها.
نقلا عن اليوم