في مناسبة مرور 33 عاما على تأسيس مجلس التعاون الخليجي، تكرس هذه المسيرة العديد من الدروس والعبر، لعل في مقدمتها، فيما يتعلق بالمسيرة الاقتصادية، الترابط الوثيق بين تحول دول مجلس التعاون الخليجي نحو أشكال أكثر تطورا من الاندماج والتكامل وبين وجود بنى مادية واقتصادية قوية ومتشابكة تكرس التكامل الخليجي ليس على مستوى الأجهزة والمؤسسات الفوقية فحسب، بل على مستوى المواطنين وأرزاقهم ووظائفهم ومعيشتهم، وعلى مستوى مصالح ومشاريع القطاع الخاص الخليجي.
ولا شك أن قيام مجلس التعاون في مايو عام 1981 جسد تحقيقاً لحلم عزيز لدى أبناء البلدان العربية الخليجية، يتمثل في السعي الجماعي إلى تكامل اقتصادي واجتماعي وسياسي يجسد وحدة خليجية تتوفر لها جميع المقومات التاريخية والحضارية والبشرية والمادية.
فتكون هذه الوحدة قادرة على مواجهة كافة التحديات التي تواجه مسيرتها الحضارية، وتدرأ مختلف المخاطر التي تبرز لكيانها وبقائها أو لكيانات أعضائها، وعلى مختلف الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.
وعلى مدة أكثر من ثلاثة عقود من العمل الخليجي المشترك، تمكنت تجربة المجلس من تحقيق حصيلة من الإنجازات في مجالات متعددة وكثيرة لا يتسع المجال هنا لحصرها. الا أن أبرزها الاتفاق على قيام السوق الخليجية المشتركة عام 2008.
وبعد مرور 33 عاماً على بدء مسيرة العمل الاقتصادي الخليجي المشترك، يبدو أن الآمال التي رسمت في بداية المسيرة قد قطعت شوطاً كبيراً إلا أنها لا تزال بحاجة إلى استكمال الأسس والقواعد المتينة التي تجسدها تجسيداً حقيقياً.
ولعل أبرز وأهم هذه القواعد هو وجود شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص في مسيرة التنمية على مستوى كل بلد خليجي، وعلى المستوى الخليجي ككل.
ولعل هذه الحقيقة برزت أيضا عندما أوكل قادة دول المجلس للهيئة الاستشارية مهمة تقويم الاتفاقية الاقتصادية الموحدة والخروج بتوصيات محددة، حيث لم يكن مفاجئاً ان يتوصل هذا المجلس الى حقيقة أساسية بشأن معوقات العمل الاقتصادي المشترك وهي عمومية الأهداف وتعدد المواضيع التي تناولتها الاتفاقية الاقتصادية الموحدة دون ربطها ببرنامج زمني يحدد الأولويات، وكذلك -وهو جانب مهم- ربطها بآليات للتنفيذ يلعب القطاع الخاص دورا أساسيا فيها.
ولدى تقويم مسيرة التعاون الخليجي للانتقال الى مرحلة جديدة من الاندماج والتكامل، تبرز مجموعتان من التحديات التي يجب التعامل معها اذا ما أريد الدفع بهذه المسيرة للأمام: تتمثل المجموعة الأولى في تلك النتائج المرتبطة بمسيرة التنمية في كل واحدة من الدول الخليجية، وبطبيعة الخصائص الجيو سياسية لها والخصائص الموردية والسكانية.
ومن أبرز التحديات التي تضمها هذه المجموعة هي تأثر المنطقة بتضارب المصالح الدولية على النفط، فضلاً عن المشاكل الإقليمية المحيطة بدول المجلس وقيام الركائز الاقتصادية لدول المجلس على التنافس (التشابه) لا التكامل، الأمر الذي أدى إلى الحد من زيادة حجم وتنوع التجارة البينية وتكامل القطاعات الإنتاجية.
علاوة على عدم تناسب الدور التنموي للقطاع الخاص مقارنة بمدى التطور في إمكانيات هذا القطاع وقدر الحوافز التي وفرتها الدولة لمؤسساته.
بالإضافة الى ذلك، ترسخ مفهوم الرعاية الأبوية للدولة الأمر الذي أدى إلى تركز العمالة الوطنية في الجهاز الحكومي واستمرار الاعتماد على العمالة الأجنبية للوفاء باحتياجات سوق العمل في الأنشطة غير الحكومية.
كما تبرز أيضا مشكلة عدم مواءمة مخرجات نظم التعليم والتدريب مع متطلبات أسواق العمل والبنيان الاقتصادي، وحاجة هذه النظم إلى التطوير الذي ينصرف إلى الفلسفة والمضمون والآليات لمواجهة هذه الاحتياجات.
وهناك أيضا ظاهرة استمرار تفوق قوى الاستهلاك على قوى الإنتاج الأمر الذي يبقي على معدل استثمار منخفض مقارنة بالقدرات الوطنية الادخارية، علاوة على معايشة العجز في الميزانيات العامة، الأمر الذي يقترن بمؤشرات سلبية على القدرة التوظيفية للاقتصاديات الخليجية للعمالة والاستثمار في بناء القدرات الإنتاجية.
ان النهج الذي التزمت به الحكومات الخليجية في التحرير الاقتصادي وفتح الأسواق وتحرير القطاعات تدريجيا تنطوي جميعها على زيادة حدة المنافسة بين الدول والشركات في الاسواق الداخلية والخارجية، حيث تستطيع الشركات والمؤسسات القوية والكبيرة تحقيق معدلات نمو ايجابية، بينما لا تستطيع الشركات والمؤسسات الصغيرة فعل ذلك ما قد يؤثر على مستوى ادائها ووجودها.
اما الفرص والامكانات الجديدة التي يتيحها ذلك النهج فهي تتجسد عموما في ما تهيئه من مناخ وحوافز مواتية للتعاون والانفتاح الاقتصادي والتجاري بين الدول والشركات، وبالتالي العمل على اتساع الاسواق وانفتاحها، وزيادة التصدير والانتاج المتبادل، وزيادة الدخول ونقل التكنولوجيا المتطورة وتوطينها.
وستكون الشركات والمؤسسات الخاصة الاكثر كفاءة ومرونة والقادرة على التجاوب مع متطلبات ذلك النهج بمرونة وانفتاح هي الأكثر قدرة على اغتنام الفرص وتسخيرها لفائدتها الخاصة.
أما المجموعة الثانية فتتمثل في تلك المستجدات الناشئة عن التطور في النظام الدولي خلال العقود الثلاثة الماضية. ففي مجال الفكر التنموي لم تحسم دول المجلس بعد خياراتها فيما يخص نمودج تطور التنمية، خصوصا أنه من الصعب الحديث عن نمادج نمطية جاهزة للاختيار فيما بينها.
كما تبرز التطورات الخاصة باستمرار الصراع على أسواق النفط وتلك الخاصة بالتكتلات الاقتصادية الإقليمية ونشأة الاتجاه إلى العولمة الاقتصادية، بما تتضمنه من تحرير للتجارة والاستثمار الدوليين في إطار منظمة التجارة العالمية.
ومن أبرز مستجدات هذه المرحلة استمرار الثورة العلمية والتقنية والمعلوماتية وتطبيقاتها في البلدان الصناعية، وازدياد الأهمية النسبية للانفاق على أنشطة البحث العلمي وأنشطة البحث والتطوير، وانعكاس هذه الثورة المتواصلة على الهياكل المهنية للقوى العاملة ومعدلات البطالة في كافة الأنشطة الاقتصادية، فضلاً عن تأثير التطورات المتلاحقة في مجال الاتصالات والمعلومات على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والجوانب الحضارية في البلدان المختلفة.
هذه القضايا الحيوية والإستراتيجية يجب أن تدرس باستفاضة ومنهجية علمية للتوصل الى تقويم سليم لمسيرة التعاون الاقتصادي.
ومن ثم وضع الاستراتيجيات والخطط والبرامج التي تعمل على تحقيق أهدافنا في إقامة وحدة خليجية متكاملة الغايات والموارد والوسائل كما نادت به القمة الاخيرة في الرياض.
نقلا عن اليوم