يعتقد عدد من الاقتصاديين بأن سياسات التقشف قد لا تكون نافعة، بل ربما ضارة. ويستشهد هؤلاء بالتجارب التاريخية في بلدان كثيرة حيث أدت هذه السياسات إلى تراجع النمو وتفاقم البطالة.
ويرى اقتصاديون أن قيام اليونان وإيرلندا وإسبانيا والبرتغال، بتطبيق إجراءات تقشفية خلال السنوات الماضية لمواجهة أزمات الديون السيادية وإنقاذ النظام المصرفي، أضرت فئات مجتمعية واسعة وأدت إلى فقدان وظائف وخفض الأجور، ولم تؤد إلى إصلاحات مهمة يمكن أن تساهم في رفع وتيرة النمو الاقتصادي.
في المقابل، هناك من يدفع بوجهات نظر مناقضة تؤكد سلامة إجراءات التقشف، فهي خفضت العجز في الموازنات وكذلك الديون السيادية، ودفعت الحكومات إلى تبني سياسات مالية أكثر ترشيداً.
ويرى هذا الفريق من الاقتصاديين بأن سياسات التقشف أدت إلى تحسين أوضاع بلدان أوروبية خلال السنوات المنصرمة، مثل اليونان التي أصبحت قادرة على طرح سندات دَيْن حكومية في الأسواق المالية وتستطيع أن تسوقها بأسعار فائدة معقولة.
ان هذه السياسات المالية التقشفية قد تكون مفيدة في ظل ظروف محددة وبعد أن يتم التوافق عليها سياسياً واجتماعياً. كما أنها تتطلب تعديل السياسات الضريبية، بزيادة مساهمات الفئات الثرية جداً ورفع مستوى مسؤولياتها الاجتماعية حتى تكون كلفة التقشف موزعة بتوازن بين كل الفئات.
لكن هل يمكن تطبيق سياسات تقشفية في بلدان الخليج المصدرة للنفط لترشيد الإنفاق، أو على الأقل الحد من نموه؟
لا شك في أن بلدان الخليج رفعت خلال السنوات الأخيرة، وبعد ارتفاع وتيرة المطالبات الشعبية والتوجس من تأثيرات «الربيع العربي»، مخصصات الرواتب والأجور والدعم السلعي والخدمي ما رفع كلفة الإنفاق إلى مستويات قياسية. إلا أن عدداً من المسؤولين، خصوصاً في الكويت، طرحوا أهمية التبصر في الإنفاق وأهمية وضع إستراتيجيات لمواجهة تراجع محتمل لإيرادات النفط.
واعتمد هؤلاء على طروحات وتقارير لصندوق النقد أثارت تساؤلات عن مدى قدرة الحكومات على مواجهة هذه الالتزامات الإنفاقية من دون عجز مالي مهم في الموازنات.
ربما هناك مبالغات في التحذيرات، إلا أن السياسات المالية الحصيفة تظل مهمة وضرورية لبناء إاقتصادات أكثر قدرة على مواجهة الأزمات والتحولات الاقتصادية المحتملة.
وهي سياسات لا يمكن أن توصف بالتقشفية مهما جرى ترشيدها. وعلى دول الخليج وقف الهدر في الإنفاق وتبني سياسات اقتصادية لتوظيف أفضل للموارد، بعيداً من تبديد الأموال دون مبررات اقتصادية، وحتى الفساد الإداري.
من أهم الإصلاحات المالية الأساسية، خفض الدعم الذي يشمل الوقود والكهرباء والمياه والمواد الإنشائية والمواد الغذائية.
ليس هناك من تحديد واضح لمن يجب أن يتوجه إليه الدعم، على رغم أن المنطق يحتم توجيهه للفئات المهمشة والمتدنية الدخل.
وكما هو معلوم فإن الفئات الثرية ترتفع وتيرة استهلاكها المياه والكهرباء ووقود وسائل النقل وكذلك المواد الغذائية، ما يزيد حصتهم من الدعم.
كما يستفيد هؤلاء من الخدمات الطبية أو العلاجية في المستشفيات الحكومية مثل غيرهم من المواطنين. وعلى الحكومات أيضاً وضع معايير للاستفادة من أموال الدعم مثل تحديد شرائح الاستهلاك، بحيث ترتفع الكلفة كلما ارتفعت مستويات الاستهلاك.
ومثل هذه المعايير يؤدي لا محالة إلى الحد من الاستهلاك وترشيده من قبل المستفيدين ويخفض الاستهلاك الكلي والذي تزداد وتيرة الهدر من خلاله لأسباب تتعلق بقيم الاتكال على دعم الدولة.
وربما تمثل مخصصات الدعم المختلفة ما يصل إلى 20 أو 25 في المئة من إجمالي مخصصات الموازنات الحكومية في بلدان المنطقة، وهذه النسب يمكن ترجمتها بعشرات البلايين من الدولارات والتي يمكن أن تقلص ويوجه ما يوفر منها إلى استثمارات مجدية سواء في البنية التحتية أو الخدمات الأساسية والمرافق، وربما إلى استثمارات يمكن أن تزيد القدرة على تحقيق إيرادات سيادية.
ويمكن الزعم بأن أي ترشيد للدعم لن يؤدي إلى معاناة اجتماعية أو تراجع في مستويات المعيشة للمواطنين في دول الخليج.
من جانب آخر، تستطيع بلدان الخليج أن تتبنى إصلاحات اقتصادية متدرجة تعمل على الحد من التوظيف في القطاع الحكومي، والذي لا يستند إلى حاجات حقيقية وهو يساعد على ارتفاع مستوى البطالة المقنعة.
وبلدان الخليج تواجه مشكلة ازدياد أعداد الشباب وصغار السن نظراً الى ارتفاع معدلات النمو السكاني خلال السنوات والعقود الماضية.
كما أن فلسفة دولة الرفاهية وقيم الريع أدت إلى تهميش دور القطاع الخاص، فظلت قدرة مؤسساته على توظيف المواطنين محدودة ولا تتناسب مع ازدياد أعداد المتدفقين إلى سوق العمل.
وسبق للمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي وغيرهما، أن دعت الحكومات إلى اعتماد برامج التخصيص التي تؤدي إلى توسيع دور القطاع الخاص ومن ثم تحمله مسؤولية واسعة في خلق الوظائف الملائمة للمواطنين.
مثل هذه التطورات، إذا حصلت، قد تساهم في ترشيد الإنفاق حيث أن مخصصات الرواتب والأجور تستقطع نسبة أكبر من تلك المخصصة للدعم.
هنا أيضاً، لا يتوقع أن توصل برامج التخصيص وخفض مخصصات الرواتب والاجور في الموازنات الحكومية إلى معاناة، إذ يفترض أن يتمكن القطاع الخاص من توفير الوظائف المناسبة بشروط القطاع العام.
إن أي تعديلات على السياسات المالية في بلدان الخليج لا يمكن وصفها بالسياسات التقشفية، بل هي سياسات مالية متوافقة مع قيم الترشيد والإصلاح والتوظيف الأمثل للإمكانات والموارد الاقتصادية.
نقلا عن الحياة