ذكرت في مقال سابق العلاقة بين مشكلة السكن والبطالة، حيث إن النهوض بالقطاع الإسكاني سيوفر أعدادًا ضخمة من فرص العمل الجيدة بمختلف الأنشطة والقطاعات ولكن حتَّى تتحقق الفائدة الأوسع للاقتصاد لا بُدَّ من ترتيب أوضاع بيئة العمل المحفزة لجذب الاستثمارات وتمويل المشروعات التي تشكّل الحاضنة الأكبر بأغلب الاقتصاديات العالميَّة لإعداد العاملين فيها.
فدول كأمريكا واليابان والهند والصين وإندونيسيا تستحوذ المنشآت الصَّغيرة والمتوسطة على الجزء الأكبر ليس من حيث عدد هذا النوع من المنشآت بل من حجم التأثير الكبير بسوق العمل والتوظيف وأيْضًا بالناتج المحلي بحجم إنتاج عالٍ ولم تصل هذه الدول للنجاح الحالي بدعم تلك المشروعات إلا بعد تنظيم اقتصادي شامل لها وفر البيئة الملائمة لإنجاحها وتعد اليابان من أكثر الدول نجاحًا بدعم المشروعات الصَّغيرة والمتوسطة التي تشكّل 99 بالمئة من حجم منشآتها وتوفر فرص عمل لأكثر من 80 بالمئة من القوى العاملة فيها مما يجعلها مع كوريا الجنوبيَّة التي تتقارب معها بنسب التأثير لهذه المشروعات باقتصادها مثالاً يحتذى به في اقتصاد المملكة للوصول إلى الأهداف، التي نسمعها كثيرًا حول دعم المشروعات الصَّغيرة والمتوسطة لدينا منذ فترة ليست بالقصيرة ولكننا مازلنا بعيدين عن تحقيقها لأسباب عديدة.
ويبرز من أهم الأسباب عدم وجود كيان يرعى هذه المشروعات ويشرف عليها تنظيميًّا وتشريعيًّا والمتمثّل بهيئة خاصة بها رغم وجود مطالبات عديدة أبرزها من الغرف التجاريَّة لإنشائها ليكون لها الدور شبه الكامل بالنهوض بها فمازال حجم تلك المشروعات ضعيفًا من حيث تأثيره بالاقتصاد المحلي، بل إنّه لا يوجد تعريف واضح لها يحدد نوعها وشكلها ليتم التركيز على دعمها ويَتمُّ حاليًّا دعم بعض تلك المشروعات بأساليب وإن كانت جيدة بظاهرها لكن الفعالية ضعيفة لوجود عوائق مختلفة لا تسمح بنجاحها والتوسع الأفقي والعامودي بها.
فما تحتاجه تلك المشروعات لدعمها لا يرتبط فقط بتأسيس هيئة مستقلة للعناية فيها بل يفترض أن يكون العمل تكامليًّا من جهات عديدة لكي تتحقق الأهداف المأمولة للنهوض بتلك المشروعات من حيث التنوع بأذرعة التمويل لها ما بين البنوك التجاريَّة والصناديق الحكوميَّة مع وضع قوانين الحماية من الإفلاس عبر برنامج يساندها يكون بمثابة مظلة تأمينية لحمايتها ودعمها ماليًّا وكذلك توفير برامج تدريب وتطوير فني وتقني وإداري للعاملين بها وللمنشآت لكي تتمكن من تحقيق معايير جودة وتنافسية بالتكاليف تدعم ربحيتها كما يجب أن يخصص جزءًا من العقود الحكوميَّة لتلك المشروعات تتنافس عليها دونًا عن الشركات الكبرى كي تحظى بجزء من الإنفاق الحكومي مباشرة بطريقة منظمة وليس من خلال عقود الباطن التي لا تحظى بوضوح من حيث نظاميتها إلى الآن ويضاف لكل ذلك ربط هذه المنشآت بالمشروعات الضخمة أو الصناعات الكبرى من حيث الزام الشركات أو الجهات التي تقيم تلك المشروعات الجبارة بإدخال وربط المنشآت الصَّغيرة بأعمالها بنسب مُعيَّنة ولسلع وخدمات محددة تدعمها وتدخلها بمنظومة الاقتصاد بإطار أوسع بل وتُؤثِّر إيجابًا عليها من حيث الارتقاء بجودة وكفاءة إنتاجها وخدماتها ويضاف لذلك تأسيس كيانات مخصصة لدعم تلك المشروعات من حيث توفير المواد الخام لمنتجاتها بأسعار تنافسية كنظام الشراء الموحد بالإضافة لكيان حكومي يتبع هيئة المشروعات الصَّغيرة المحتملة يوفر لها إقامة معارض داخليَّة وخارجيَّة تدعم صادراتها والتعريف بمنتجاتها وخدماتها وتساندها بعمليات التفاوض الدولي خصوصًا لحمايتها كونها لا تملك القدرة على ذلك.
المشروعات الصَّغيرة والمتوسطة ضعف دورها بالاقتصاد حاليًّا يؤثِّر على نجاح الخطط الحكوميَّة لخفض البطالة الحالية بل والمستقبلية مع دخول أكثر من 250 ألف من الشباب والشابات لسوق العمل سنويًّا ويتأثر ضعف دورها أيْضًا ببطء تنشيط دور قطاعات اقتصاديَّة مهمة كالإسكان وكذلك بعدم استكمال البيئة التنظيمية والدعم المتكامل المطلوب لها فبقدر ما يشكّل الإنفاق الحكومي المدعوم بأسعار نفط مرتفعة دورًا كبيرًا بالنمو الاقتصادي بالمملكة إلا أن المسارعة لدعم تلك المشروعات سيكون له أثر عظيم بالنمو والتنمية في الاقتصاد التي استهدفتها كل الخطط الخمسية الحالية والسابقة دون الوصول لتنوع بمصادر الدخل والإنتاج المستهدف أو التَغَلُّب على أحد أهم التحدِّيات الاقتصاديَّة المتمثّل بالبطالة وقدرة الاقتصاد خصوصًا بالمستقبل على توفير فرص العمل الجيدة.
نقلا عن جريدة الجزيرة
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع