ببلوغ منظمة «أوبك» عمرها الثالث عشر، تأجج العداء المفعم بالسياسة والاقتصاد بين دول منظمة اوبك من جهة وبين الشركات النفطية ودولها الصناعية من جهة أخرى، وثارت نزاعات جمة نتج عنها المواجهة الكبرى بالحظر النفطي بسبب تداعيات حرب (أكتوبر) عام 1973م في الوقت الذي كانت الظروف الاقتصادية العالمية في بداية السبعينيات في غاية من الاستثناء وبلغ التنافس على منابع البترول وامداداته أشده، وتمخضت تلك الأزمات بأزمة كانت شبه كارثية على الدول الغربية التي فقدت الهيمنة ولم تعد قادرة على التمسك بزمام المبادرة خصوصاً المواجهة الكبرى بحظر تصدير النفط على أمريكا وهولندا وبعض الدول الغربية بعد حرب أكتوبر لعام 1973م، حينما رفضت الدول الغربية الطلب العربي بضرورة ممارسة الضغط على الكيان الصهيوني لكي تقوم بالانسحاب من الاراضي العربية المحتلة منذ عام 1967م، حينها قررت البلدان العربية المصدرة للبترول في 16 أكتوبر 1973، فرض حظرا نقطياً وبالتحديد على الولايات المتحدة التي ساندت الكيان الصهيوني وكذلك هولندا التي قامت هي الأخرى بتزويد الكيان الصهيوني بالأسلحة وسمحت للأمريكيين باستخدام المطارات الهولندية لإمداد ودعم الكيان الصهيوني اثناء حرب اكتوير، وحظرت تزويدها بالنفط حتى يتم انسحاب الكيان الصهيوني من الاراضي العربية المحتلة منذ عام 1967م. كما قامت أوبك التي يشكل اغلب اعضائها دول عربية بخفض الإنتاج من النفط بنسبة 5% شهريا والى رفع اسعار البترول مع فرض الحظر على شحنات من النفط الخام على أي دولة متحالفة مع الكيان الصهيوني واغتصابه للأراضي العربية.
كما أشرنا سابقاً أن الدول العربية قد أخفقت في تجربتها الأولى والتي لم يحالفها الحظ عندما حاولت حظر النفط العربي عام 1967م للضغط على الغرب في صراعها مع المحتل الصهيوني وفي الحقيقة كان من بين فشل ذلك الحظر هو بسبب الاوضاع السياسية العربية المتشرذمة في ظل قوة ومتانة الاقتصاد الغربي الأمريكي آنذاك بالاضافة الى قوة شركاته البترولية والتي انعكست سلبا على تجربة منظمة اوبك آنذاك، ولكن اوضاع السبعينيات اختلفت وبشكل جذري عن الظروف السابقة لعام 1967م.
فمن جهة كانت الظروف السياسية العربية قد تغيرت وكانت ملائمة للتحرك بشكل موحد خصوصاً بعد وفاة عبدالناصر وما أعقبه من تقارب مصري سعودي وتوحيد المواقف العربية، وفي ظل ظروف اقتصادية صعبة كان يعانيها النظام الرأسمالي بسبب القرارات الامريكية النقدية وفك ارتباط الدولار بالذهب وانسحاب امريكا من معاهدة بريتون وودز عام 1971م وما شكل ذلك الحدث من زلزال هز اركان النظام الرأسمالي وامتد لسنوات ونتج عنه انهيار اسواق الاسهم العالمية في بداية عام 1973م، وأتى الحظر البترولي على امريكا وهولندا والتلويح بالحظر النفطي على كل من يتعاون مع العدوان الصهيوني كصدمة اقتصادية اضافية على البلدان الرأسمالية الغربية وكاد العالم الرأسمالي يتهاوى برمته نظراً لأن الحظر النفطي قد تزامن كما اشرنا مع الانهيار الكبير لأسواق الأوراق المالية العالمية والذي استمر لمدة سنتين (بين يناير 1973 وديسمبر 1974)، وكان هذا الحدث يعتبر أول حدث يهز النظام الرأسمالي منذ الكساد الكبير عام 1929م وهو الكساد الذي كان احد الاسباب حينئذ في تهيئة ظروف الحرب العالمية الثانية، أما فترة عام 1973م فكانت واحدةً من أسوأ حالات الركود في سوق الأوراق المالية في التاريخ الحديث وافرزت آثارا اقتصادية مستمرة على جميع أسواق الأوراق المالية الرئيسية في العالم، وكان السبب الرئيسي لذلك الانهيار في أسواق الأوراق المالية العالمية (بين يناير 1973 وديسمبر 1974) هو قرار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ريتشارد نيكسون بالانسحاب من نظام بريتون وودز عام 1971م وهو نظام كان يتعامل به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لتثبيت العملات النقدية في نظام ثابت للصرف الأجنبي بنسبة تذبذب 1% للعملة بالنسبة للذهب أو الدولار الى قيام ما اطلق عليه «صدمة نيكسون» بتغير السياسة النقدية للدولار وإلغائه او فك ارتباط الدولار بغطاء الذهب 1971م مما أدى الى انخفاض حاد لقيمة الدولار في إطار اتفاق سميثونيان.
ومع وقوع النظام الرأسمالي العالمي بالفعل تحت ضغط من انهيار اتفاق بريتون وودز وما افرزه من سلسلة طويلة ومتراكمة من الركود وارتفاع معدلات التضخم واستمرارها على فترات زمنية طويلة، وبعدم افرازت اتفاقية جنيف الاولى لعام1972 بأي تعويض عن الخسائر التي لحقت بمنظمة اوبك نتيجة لتدهور قيمة الدولار وما تبعه من تضخم سببه فك ارتباط الدولار بالذهب وانخفاض اسعار صرف الدولار في سوق النقذ العالمية وما تلاه من انخفاض جديد في اوائل عام 1973م، تم التوصل الى اتفاقية جديدة بين اقطار الاوبك مع شركات النفط سميت باتفاقية جنيف الثانية، والتي بموجبها ارتفعت الاسعار المعلنة لنفوط الاوبك بنحو عشرة في المائة فقط.
لذا نرى أن هذين الحدثين المهمين: أي الانسحاب الامريكي من نظام ثابت للصرف الأجنبي بالنسبة للذهب وانهيار نظام بريتون وودز النقدي (1971م) وما تلاه من انخفاض حاد للدولار جنبًا إلى جنب مع انهيار سوق الأوراق المالية (1973-1974)، شكلا الأحداث العظام منذ الكساد الكبير ولم يكن الاقتصاد الدولي مهيأ لأي أزمة مهما كانت بسيطة او هامشية، إضافة لذلك جاءت أزمة البترول في ظل فجوة كبيرة وتتسع بين العرض والطلب على البترول حيث تزايد استهلاك البترول في امريكا واصبحت دولة مستوردة للنفط ففي عام 1973م بلغ استهلاكها نحو تسعمائة مليون طن مقابل انتاجها البالغ نحو ستمائة مليون طن، كما بلغ استهلاك البترول في دول اوروبا الغربية في ذلك العام (1973) نحو ثلاثمائة مليون طن مقارنة بأنتاجها الداخلي الذي لم يتجاور عشرات الملايين طن.
ففي تلك الظروف الاقتصادية العالمية التي لا تحتمل أي أزمة ولو كانت بسيطة كما أشرنا، جاء حظر النفط عام 1973م كالقشة التي قصمت ظهر البعير، وكانت صاعقة على الدول الغربية التي كانت في الاساس ترزح تحت وطأة اقتصادية لم تشهدها منذ الكساد الكبير في بداية الثلاثينيات من القرن المنصرم، فقد قام أعضاء منظمة الدول العربية المصدرة للبترول أوابك التي نشأت عام 1969 بين الدول العربية أعضاء أوبك بالإضافة إلى مصر وسوريا في أعقاب الحظر العربي السابق في اعقاب حرب عام 1967م وبعد الحظر البترولي العربي لذلك العام الذي لم تتحقق اهدافه ببسبب الظروف الاقتصادية التي لم تكن مهيأة كما هي الحال عندما قاموا في 15 أكتوبر 1973 بالإعلان عن عزمهم إيقاف إمدادات النفط إلى الولايات المتحدة والبلدان الأخرى التي تؤيد الكبان الصهيوني في صراعه مع الدول العربية، وكذلك بمواقف أعضاء منظمة أوبك على استخدام نفوذهم على آلية ضبط أسعار النفط في أنحاء العالم من اجل رفع أسعار النفط، بعد فشل المفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية «الأخوات السبع» في وقت سابق كما اشرنا اليه.
وفي تلك الظروف الاقتصادية العالمية الصعبة والتضخم المثير خلال هذه الفترة وكبت النشاط الاقتصادي في اوائل السبعينيات والتعنت الغربي ومساعدته العدوان الصهيوني ضد الدول العربية، وفي ظل الاعتماد المتزايد للبترول لمعظم الاقتصاديات الصناعية العالمية وبتبوؤ منظمة أوبك على صدارة المورد الأساسي للأسواق البترولبة العالمية، أدت تلك التحولات المتلاحقة والمتزامة والمتداخلة الى زيادة أسعار البترول بمقدار خمسة اضعاف خلال الفترة من تشرين الاول 1973 الى كانون الاول 1974.
كما هو متوقع لم ترضخ الدول الغربية للمطالب السياسية العربية وواجهت الحظر البترولي باتخاذ جملة من الاجراءات المنتظمة المحتسبة لمثل تلك الازمات، ومنها القيام بزيادة الضرائب بمقدار خمسة أمثال على مراحل، مما ساعد على فرض قيود صارمة على استهلاك البترول واتجهت الدول الغربية الى إعادة استخدام الفحم الحجري كما أنها بنت مخزونات استراتيجية وألزمت شركاتها الكبرى (الاخوات السبع) ببناء مخزونات تجارية لها وذلك لإستغلالها خلال الازمات، واحتفظت الولايات المتحدة بمخزونات استراتيجية من النفط الخام يكفي استخدامها لمدة شهرين اذا ما توقف انتاج البترول او توقفت طرق امدادت البترول الى الاسواق العالمية، كما قامت الدول الصناعية بالبحث عن بدائل للطاقة لا تعتمد على البترول واصدرت الولايات المتحده قانونا بمنع تصدير النفط وجميع تلك القوانين يعمل بها الى يومنا هذا.
ولكن كل هذه السياسات والقوانين لم تجد نفعاً، وانطلق سباق اسعار البترول واندفع بسرعة عندما قررت إيران ان تبيع نفطها الخام بالمزاد العلني وذلك بنهاية عام 1973، وتم تشكل سوق روتردام الحرة للبترول في مدينة روتردام الهولندية، وتشكلت مضاربة محمومة على النفط في كل مكان مما جعل اسعار البترول ترتفع من 4$ للبرميل الى 17$ للبرميل خلال عام 1974.
ولقد نجح سوق المزاد العلني خصوصا عندما اضطر اليابانيون الذين يعتمدون على كامل مصادرهم من الطاقة من الخارج وتعاملت كذلك الصين والهند في هذا السوق وبعض الدول الاوروبية مما ادى الى تعميق التنافس والصراع بين الدول الكبرى المستهلكة للبترول أمريكا، اوروبا الغربية، من جهة ومن جهة أخرى اليابان، الصين، الهند، وقامت الدول الآسيوية الثلاث اليابان والصين والهند بشراء وتخزين كميات هائلة من النفط الخام وذلك لاستخدامها خلال الازمات، وقيام تلك الدول الصناعية بعقد اتفاقيات ثنائية منفردة مع دول أوبك وبدأ التضامن بين الدول المستهلكة يضعف، وباستدراك الدول الغربية هذا التصدع قامت بتشكيل الوكالة الدولية للطاقة بالإنجليزية (:International Energy Agency) أو بالاختصار (IEA) عام 1973م، كهيئة تابعة لـ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، واختصارها OECD، والـ OECD، هي في الواقع منظمة دولية مكونة من مجموعة من البلدان الغربية التي انبثقت في سنة 1948م عن منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي والتي كانت المنظمة المشرفة على إدارة خطة مارشال لإعادة اعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
وهي نفسها التي تم توسيعها لتشمل عضويتها بلدانا غير اوروبية في وقت لاحق، وفي سنة 1960 تم إعادة هيكلتها لكي تكون منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD، فلقد انشئت الوكالة الدولية للطاقة (IEA) من خلال هذه المنظمة ومكونة من 16 دولة صناعية أنشئت بغرض التصرف الجماعي لمواجهة «أزمة الطاقة» أو بالأحرى لمواجهة منظمة «أوبك» التي ازداد نفوذها بعد الحظر البترولي عام 1973م، وفي منتصف نوفمبر من عام 1974م تم الإعلان عن استقلال الإدارة الدولية للطاقة كمنظمة مستقلة OECD، وأن يكون مركزها باريس عاصمة فرنسا، وتعمل في مجال البحث وتطوير وتسويق تقنية الطاقة واستخداماتها وتنسق جهود الدول المستهلكة وحتى التدخل في السوق نظراً لامتلاكها رصيدا استراتيجيا من النفط.
وبدأت اقطار اوبك ترزح تحت وطأة التضخم وارتفاع اسعار السلع والخدمات وعانت من الخسائر الكبرى التي لحقت بدول الاوبك وعوائدها المالية في الوقت نفسه نظراً لتآكل جزء من القوة الشرائية لعوائد اقطار الاوبك، وأصبحت بعضها دولا مقترضة منذ عام 1974، وسنتطرق في المقال اللاحق إلى الجوانب الايجابية والسلبية لافرازات الأزمة البترولية.
نقلا عن جريدة اليوم