باتت الفوائض المالية التي تحققها دول مجلس التعاون الخليجي من إيراداتها النفطية، تخضع لدراسات وبحوث المؤسسات الدولية، حيث يقدر صندوق النقد الدولي بأنها سوف تبلغ 37 تريليون دولار بحلول العام 2030، في حال حافظ سعر النفط على مستوى 100 دولار للبرميل خلال هذه الفترة.
ويقول الصندوق: إن علاقة طردية موجبة فيما بين أسعار البترول وبين الفوائض المالية التي تحققها دول مجلس التعاون الخليجي، متمثلة في احتياطات النقد الأجنبي، متوقعاً أن تقترب قيمة الاحتياطيات الأجنبية لدول المجلس مجتمعة من سقف الـ 900 مليار دولار خلال 2013.
لكن السؤال الذي يطرحه صندوق النقد الدولي في دراسة له حول الموضوع، هو حول السياسات المثلى التي يمكن تنفيذها في مواجهة هذه الفوائض.
ورغم أن الأرصدة الخارجية لدول المجلس كنسبة من إجمالي الناتج المحلي العالمي قد انخفضت في السنوات الأخيرة عن المستويات الملاحظة، خلال منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، فإنها لا تزال ضخمة - حيث وصلت إلى 0،4% تقريبا من إجمالي الناتج المحلي العالمي عام 2012.
إضافة إلى ذلك، تجاوزت الأرصدة الخارجية لهذه الدول خلال عام 2012 الأرصدة الخارجية لكبرى البلدان المصدرة الأخرى، مثل: الصين، وألمانيا، واليابان.
وفي حالة دول مجلس التعاون الخليجي، على عكس كبرى البلدان المصدرة الأخرى، فإن فائض المالية العامة وفائض الحسابات الخارجية يمثلان إلى حد كبير "فائضين توأمين" فكلاهما ناتج عن استغلال موارد طبيعية غير متجددة.
كذلك اتضح أن أسعار الصرف الفعلية الحقيقية ليس لها سوى تأثير بسيط على أرصدة الحساب الجاري للبلدان المصدرة للموارد.
ولذلك فإن تقييم حجم الفوائض الخارجية لدول مجلس التعاون يستوجب تقييم مدى ملاءمة أوضاعها المالية من منظور متوسط إلى طويل الأجل.
ويستخلص الصندوق ثلاث رؤى عميقة من منهج فرضية الدخل الدائم بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، أولا: يفترض تحقيق فوائض مالية لحين نفاد الموارد الطبيعية غير المتجددة (أو انخفاض معدل استغلالها) لتمويل النفقات الحكومية المستقبلية.
ثانيا: يفترض ازدياد الفوائض المالية في حالة تقديم الموعد المحدد لمعدل نضوب الموارد الطبيعية (أي، بهدف الحفاظ على استقرار أسواق النفط العالمية)، حيث ينحصر دور دول مجلس التعاون الخليجي في تحويل ثرواتها الطبيعية في باطن الأرض إلى ثروات مالية.
ثالثا: يفترض أن يؤدي الارتفاع المؤقت في سعر الموارد الى زيادة الفوائض المالية؛ نظرا لأن الحكومات تدخر جزءا من الايرادات غير المتوقعة للأجيال المستقبلية.
وعليه، سوف تتحول الفوائض المالية إلى فوائض في الحساب الجاري بسبب خاصية "فائضين توأمين".
وبالنسبة لقياس ما إذا كان الفائض المالي في دول مجلس التعاون الخليجي شديد الانخفاض، أو شديد الارتفاع مقارنة بمعايير فرضية الدخل الدائم، فتلك مسألة تجريبية تتوقف على مجموعة معلومات اقتصادية، لا تتوافر عنها معلومات كاملة: معدل العائد المتوقع على الأصول المالية، والنمو السكاني في المستقبل، والمسار المستقبلي لسعر المورد غير المتجدد، وحجم الاحتياطات الهيدروكربونية.
وهناك حاجة أيضا لمعلومات عن العائد المستقبلي على النفقات الحكومية (أي إذا كانت ستتولد عنها إيرادات ضريبية غير نفطية في المستقبل)، ومدى توجه الحكومة نحو زيادة المدخرات الوقائية.
ولذلك فإن معايير فرضية الدخل الدائم هي مجرد معايير استرشادية وينبغي إخضاعها لاختبارات الحساسية لتقييم مدى ثباتها.
ويتضح من التحليل القائم على مجموعة من الافتراضات المتعلقة بالمعلومات المذكورة أن فوائض المالية العامة منخفضة للغاية، مقارنة بمعايير فرضية الدخل الدائم (فالنفقات الحكومية مرتفعة للغاية حاليا) في خمس من دول مجلس التعاون الخليجي الست، ووفقا لما ورد في تقارير خبراء صندوق النقد الدولي بشأن مشاورات المادة الرابعة مع أعضاء دول مجلس التعاون الخليجي ، تشير معايير الدخل الدائم إلى هذه البلدان، ما عدا قطر، بحاجة إلى التقشف المالي في الأجل المتوسط، وإن كان بدرجات متفاوتة.
وقد تؤثر بعض العوامل التي لا تغطيها معايير فرضية الدخل الدائم إلى حد ما على النتائج. فعلى سبيل المثال، قد تؤدي تقلبات أسعار المورد غير المتجدد إلى تحقيق فوائض مالية أكبر؛ نظرا لأن البلدان قد ترغب في مراكمة "مدخرات وقائية" إضافية؛ استعدادا لأي انخفاض محتمل في سعر المورد.
كذلك فإن النفقات أو الاستثمارات العامة المحلية، التي زادت بدرجة ملحوظة في دول مجلس التعاون الخليجي، قد تحقق عائدات مستقبلية من خلال تنويع الاقتصاد وزيادة الضرائب، وقد ينخفض عجز المالية العامة في هذه الحالة عن المستويات التي تشير لها فرضية الدخل الدائم.
غير أن هذه القضية تكتسب أهمية أكبر نسبيا في الاقتصاديات التي تعاني من ندرة رأس المال، أو تعتمد أكثر من غيرها على الضرائب المحلية، وهو الأمر الذي لا ينطبق على دول مجلس التعاون.
وتقوم فرضية الدخل الدائم على معايير متوسطة إلى طويلة الأجل، ويمكن لدول مجلس التعاون الخليجي -وإن كان بدرجات متفاوتة- الوصول إلى هذه المعايير تدريجيا.
وستتوقف القرارات بشأن فوائض المالية العامة في الأجل القصير على عوامل أخرى أيضا، مثل: التطورات على جانب النشاط الاقتصادي، وتوظيف العمالة.
وفي ضوء هذه الاعتبارات، يؤيد الصندوق في إطار أنشطته الرقابية، التدابير المضادة للاتجاهات الدورية التي اتخذتها دول المجلس في مواجهة الأزمة المالية العالمية.
غير أن فرضية الدخل الدائم تشير إلى أن الفوائض الحالية في المالية العامة والحسابات الخارجية لن تكون ضخمة للغاية إذا ما تم تحليلها من منظور أطول أجلا، وهو ما قد يدعو إلى اتخاذ تدابير احترازية في الأجل المتوسط؛ تحسبا لبلوغ مرحلة من التقشف المالي بدلا من الفائض المالي.
نقلا عن جريدة اليوم