إن إحدى المفارقات التي تعيشها دول مجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بواقع سوق العمل، هي اعتبارها من ضمن الدول الغنية بسبب مدخول النفط، إلا انها في الوقت ذاته تعاني من مشكلات تتعلق بالبطالة.
إن أحد التحديات الناجمة عن هذه الإشكالية تتمثل في كلفة الأجور التي يدفعها القطاع العام، إذ تمثل أكثر من 10 % من الناتج القومي، ونحو نصف المصروفات في الموازنات العامة، ما يعني أن هذا القطاع قد تشبع، ولم يعد يحتمل استيعاب مزيد من الموظفين، وكذلك اعتماد الخليجيين منذ الطفرة النفطية في السبعينات من القرن الماضي على الأيدي العاملة الرخيصة المقبلة من بلدان آسيوية، حيث يقدر عدد العمالة الأجنبية بنحو 15 مليون عامل.
ويرسل العمال الاجانب سنويا إلى بلدانهم ما بين 6 و10 % من الناتج القومي الخليجي، ما يعني نزفا مستمرا من الثروة الوطنية التي يتم ضخها إلى الخارج، وكل ذلك على حساب التنمية الاقتصادية بعيدة المدى.
إن التوطين بما أخذه من مسميات شتى في دول مجلس التعاون الخليجي (البحرنة او العممنة او السعودة أو ..الخ) انطلق في أهميته منذ نحو ثلاثين عاما، أي بعد التراجع الأول للإيرادات النفطية في منتصف الثمانينات، وتنامي العجوزات المالية، حيث بات واضحا منذ ذلك الوقت أن دول المنطقة لن تعيش عصرا ذهبيا مستمرا كان قد بدأ منذ منتصف السبعينيات، وإنما يجب أن تستعد لدورات من الركود وشد الأحزمة، وبالتالي، لا بد من إعادة النظر في نماذج التنمية التي تم تبنيها آنذاك والقائمة على مجتمع الرفاهية.
وأحد الأمور الهامة التي فرضت نفسها لإعادة المراجعة هو موضوع العمالة والتنمية البشرية، خصوصا أن الطفرة الكبيرة في خدمات التعليم الثانوي والجامعي الذي بات يخرج مئات الآلاف من الشباب الباحث عن فرص عمل ملائمة، في حين امتلأت أسواق العمل بالعمالة الأجنبية الرخيصة.
والجدل الدائر حاليا حول برامج التوطين هو في جوهره لا يدور -وكما يبدو للوهلة الأولى- حول أحد المرتكزات التي أسس عليها القطاع الخاص مجمل أنشطته خلال أكثر من عقدين من الزمن (ونعني بذلك العمالة الأجنبية الرخيصة) فقط، بل يتجاوز ذلك الى مجمل سياسات التنمية البشرية وكفاءة العمالة الوطنية وإنتاجيتها وغيرها من المواضيع. فالتوطين كهدف وسياسات وبرامج لا خلاف عليه طالما أنه يمثل السبيل أيضا لتوطين برامج التنمية ذاتها وتحقيق ثمارها على أكمل وجه.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في المقابل. هل نريد أي توطين كان وبغض النظر عن معايير الكفاءة والإنتاجية؟ الجواب على هذا السؤال واضح باعتقادنا. ومع ذلك، فإننا نريد توضيح أبعاده على مستويين. المستوى الأول هو مستوى الاقتصاد الجزئي أي micro – economic. ونقصد بذلك مستوى منشآت الأعمال في القطاع الخاص تحديدا.
والمستوى الثاني هو الاقتصاد الكلي أي macro – economic. ونقصد بذلك مستوى إنتاجية الاقتصاد ونموه على كافة الأصعدة.
وفيما يخص المستوى الأول، كلنا يعلم أن القطاع الخاص الخليجي يملك الرغبة الصادقة في توطين الوظائف في مختلف الأنشطة التي يمارسها. ولكن -ولنتحدث بكل صراحة في هذا الموضوع- إن أهم تحد نواجهه في تحقيق هذه المهمة، هو موضوع كفاءة وإنتاجية العمالة الوطنية.
وهذين العنصرين أي الكفاءة والإنتاجية لن يتحققا إلا من خلال التعليم والتدريب والممارسة، يتزامن معها تعميم ثقافة العمل والإنتاجية التي تقود بالنتيجة الى الاحتراف المهني.
فالقطاع الخاص يهدف الى زيادة العائد من الاستثمار في التنمية البشرية من خلال التطوير التوظيفي والاحتراف المهني.
أما على مستوى الاقتصاد الكلي، فلا يخفى أن الاقتصاديات الخليجية تواجه اليوم الكثير من التحديات، ليس المجال هنا للتوسع في مناقشتها.
إلا أن جميع هذه التحديات تقود الى حقيقة رئيسية، وهي أن هذه الاقتصاديات مطالبة بتحسين مستوى إنتاجيتها وكفاءة أدائها كسبيل لزيادة معدلات النمو الاقتصادي. وبالتالي تعزيز مستوى الدخل للمواطنين وتحقيق الرفاهية المنشودة.
ومرة أخرى، نقول إن تحسين مستوى إنتاجية وكفاءة الأداء الاقتصادي الكلي يتطلب تحسين مستوى إنتاجية وكفاءة المنشآت والقطاعات العاملة فيه.
أي بمعنى آخر إنتاجية وكفاءة المواطنين العاملين والقائمين على إدارة هذه المنشآت والقطاعات. وهذا لن يتحقق الا من خلال الاحتراف المهني القائم على العلم والمعرفة والتخصص والممارسة.
وإذا ما أردنا تناول التحديات التي تحيط بهذه العلاقة، وكيفية الوصول الى معالجات ومقترحات وإن كانت أولية لتحقيق التوطين بمفهومه السليم، نقول إن التوطين بمفهومه المتداول هو إحلال العمالة المواطنة محل العمالة الوافدة لمنحها فرصة العمل في وطنها.
وهذا حق كفله الدستور وعلى الدولة بهيئاتها ومؤسساتها ودوائرها أن توجد فرص العمل للمواطنين. لقد باتت قضية التوطين تمثل قضية محورية لدى الحكومات والدول، وذلك لارتباطها المباشر بالاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي، وباعتبارها الأساس الحقيقي في تنمية المجتمع والفرد.
وفي دولنا الخليجية، نحن نلاحظ للأسف أن موضوع التوطين لم يبرز، في البداية على الأقل، كجزء من استراتيجية شاملة للتنمية البشرية، وإنما فرضته ظروف حقبة تراجع العائدات النفطية، ولا سيما منذ منتصف الثمانينات، وبالتالي تراجع حجم المشاريع الحكومية، والذي انعكس بدوره على حجم نشاط القطاع الخاص. وقد نجم عن ذلك الانحسار، انخفاض حجم الوظائف المتوفرة، والتنامي التدريجي للبطالة في صفوف العمالة الوطنية.
إن جعل برامج التوطين جزء من استراتيجية شاملة للتنمية البشرية يعني توفير العديد من المستلزمات الضرورية لإنجاح هذه البرامج.
وفي مقدمة هذه المستلزمات مشاركة القطاع الخاص والتنسيق معه في وضع هذه البرامج وفقا لاحتياجاته ومتطلبات نموه.
كذلك مراجعة الأوضاع المؤلمة لبرامج التربية والتعليم في بلداننا الخليجية، والتي نتفق جميعا أنها دون طموحاتنا واحتياجاتنا. كما أن برامج ومعاهد التدريب ولا سيما المهنية والتقنية تعاني من نفس الأوضاع.
نقلا عن جريدة اليوم