أكتب هذا الأسبوع من بكين، حيث عُقدت الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون والصين يوم الجمعة 17 يناير، في قصر الضيافة الصيني (دياويوتاي) الكبير، غربي المدينة. وكانت الصين، على وجه الخصوص، قد بذلت جهودا كبيرة لعقد هذا الاجتماع وإنجاحه، منطلقة من حرصها على علاقتها مع مجلس التعاون.
وعبّر الرئيس الصيني الجديد (شي جينبينغ) عن اهتمام القيادة الصينية بهذه العلاقة، حين استقبل وفد مجلس التعاون بـ(قاعة الشعب العظمى) في بكين. وجاءت أخبار الاجتماع على رأس نشرات التلفزيون الإخبارية وفي الصفحات الأولى من الصحف الصينية.
والصين تؤكد دائماً أنها تعتبر مجلس التعاون، كمنظمة، أحد أهم أولوياتها، بالإضافة إلى اهتمامها الكبير بدوله الأعضاء. فانطلاقا من إيمانها بأهمية منظمات العالم الثالث تعتبر المجلس إحدى تلك المنظمات الفاعلة، التي أسستها وتديرها دول نامية مثل الصين نفسها.
ومثل القيادة الحالية، أكد الرئيس السابق (هو جينتاو) هذا الدعم خلال فترة حكمه، إذ لاحظتُ خلال لقائي به في زيارتيه الرسميتين للمملكة العربية السعودية في أبريل 2006 وفبراير 2009 عُمق معرفته بمجلس التعاون وحرصه على تعزيز تلك العلاقة بخطوات عملية. وكان إلمامه بأدق التفاصيل لافتاً للنظر ومثيراً للإعجاب.
وبسبب تلك الرغبة المتبادلة في تعزيز العلاقات، بدأ مجلس التعاون والصين حوارهما الاستراتيجي بتوقيع مذكرة تفاهم في بكين في يونيو 2010، وضعت الخطوط العريضة لهذا الحوار، ثم أعقبها وضع خطط عمل تفصيلية لوضعها موضع التنفيذ.
وقبل ذلك الوقت، غلب على علاقاتهما الطابع التجاري والاستثماري، والنفط طبعاً، ويظهر ذلك من "الاتفاقية الإطارية للتعاون الاقتصادي والاستثماري والفني" التي وقعاها في بكين في عام 2004، ممهدة الطريق لمفاوضات التجارة الحرة التي بدأت بعد ذلك.
وتباطأت المفاوضات التجارية في أوائل 2009 بسبب السياسات الحمائية للصين، حيث سعت إلى الحد من نفاذ السلع البتروكيماوية الخليجية إلى أسواقها، ورفضت إلغاء الرسوم الجمركية عليها في إطار مفاوضات التجارة الحرة.
فمع رغبة الصين الشديدة في إبرام اتفاقية التجارة الحرة، إلا أنها لم توافق على فتح أسواقها للبتروكيماويات الخليجية، حماية لشركاتها الوطنية التي تنتج أمثال تلك السلع.
وفي وقت لاحق من عام 2009، أوقف مجلس التعاون جميع مفاوضات التجارة الحرة إلى أن يتم تقييمها في ضوء الأزمة المالية العالمية.
وفي اجتماع الرئيس الصيني بوفد مجلس التعاون يوم الجمعة الماضي، دعا إلى سرعة إبرام اتفاقية التجارة الحرة، مؤكداً على أهمية التجارة الخليجية-الصينية.
وفي بيان صدر بعد اللقاء، قال الرئيس: "بدأت مفاوضات التجارة الحرة بين الصين ومجلس التعاون منذ عقد من الزمان، وبذل الجانبان جهوداً كبيراً للوصول إلى اتفاق، ولذلك أرجو أن يتمكنا من التوقيع عليه في وقت قريب."
وقد أكد المسؤولون الصينيون مرارا لمجلس التعاون بأنهم مستعدون لتقديم قدر كبير من المرونة في معالجة القضايا العالقة، في حال استؤنفت المفاوضات.
فلماذا تهتم الصين كل هذا الاهتمام باتفاقية التجارة الحرة مع المجلس؟
أولاً: توفر الاتفاقية ضمانات لها باستمرار التجارة المزدهرة حالياً بين الجانبين، التي قفزت قفزاتٍ لافتة خلال العقد الماضي. ففي عام 2001، لم يتجاوز حجم التجارة تسعة مليارات دولار، ولكنه قفز إلى (151) مليارا في 2012. وعلى وجه الخصوص، تهتم الصين بحماية إمدادات النفط من دول المجلس، التي تشكل حالياً المصدر الرئيس للطاقة في الصين.
وكما قال أحد خبراء (المعهد الصيني للدراسات الدولية) هذا الأسبوع، فإن مجلس التعاون يشكل مفتاحاً مهماً للأمن الاقتصادي الصيني.
ثانياً: تأمل الصين أن تتمكن من خلال الاتفاقية من سد العجز في ميزانها التجاري مع دول المجلس. ففي عام 2012، بلغت صادرات دول المجلس، ومعظمها من النفط الخام، نحو (90) مليار دولار، مقابل (60) مليارا صادرات الصين إليها، أي بفائض (30) مليارا لصالح دول المجلس.
ثالثاً: على مدى الأعوام القليلة الماضية، فتحت الصين باب المفاوضات التجارية مع جيرانها وشركائها التجاريين، بما في ذلك اليابان وكوريا وأستراليا ورابطة (الآسيان) ودول المحيط الهادي.
ولم تبدأ الصين في تشجيع التبادل التجاري الحر إلا مؤخراً، ولكنها الآن تدعمه، بعد انضمامها لمنظمة التجارة العالمية، وتراه الطريق للمستقبل.
رابعاً: تشكل منطقة الخليج جزءاً مهماً من مبادرة "طريق الحرير الجديدة" التي أطلقتها الصين مؤخراً. ولأنه مشروع مثير، له أبعاده الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، أرجو أن أفرد له مقالاً مستقلاً.
ولكن التجارة، حيث ثمة اتفاق كبير، لا تحدد جميع أبعاد العلاقة الصينية الخليجية. فمع أن الصين تعبر عن اهتمامها الكبير بعلاقاتها الخليجية، تتباين وجهتا النظر حول بعض المواضيع السياسية، خاصة الشأن السوري.
لم تحذ الصين حذو روسيا في دعمها المعلن والقوي لنظام الأسد ومهاجمة خصومه، ولكنها مثل روسيا استخدمت حق النقض مرتين في مجلس الأمن لإفشال محاولات إصدار قرارات تفعل دور مجلس الأمن في إنهاء النزاع السوري. وبالطبع كان مجلس التعاون مؤيداً لمشروعي القرارين.
وبسبب الخلاف على الملف السوري من ناحية، وبالنظر للمرحلة الانتقالية التي مرت بها قيادة الصين وحكومتها خلال الفترة الأخيرة، فقد تأجل عقد اجتماع جولة الحوار الاستراتيجي لأكثر من عامين، بعد انعقاد الجولة الثانية في أبوظبي في مايو 2011. فمنذ ذلك الوقت، كانت هناك محاولات لعقد الجولة الثالثة ولكنها لم تتحق، فيما عدا اللقاءات الوزارية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، والاجتماعات الفنية والاقتصادية.
ولذلك فإن عقد الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي يوم الجمعة كان تطورا مهما بعد انقطاع (32) شهراً. ولأن الاجتماع عُقد قبل أيام من مؤتمر (جنيف2)، فإن الشأن السوري كان على رأس المواضيع السياسية التي عالجها.
فمجلس التعاون يعوّل على الصين بأن تتخذ موقفا قويا لدعم خروج المؤتمر بنتيجة قوية تتمثل في تشكيل سلطة انتقالية ذات صلاحيات كاملة، تخلص سورية من نظام الأسد وتمكّن الشعب السوري من اختيار قيادة وحكومة جديدة.
نقلا عن جريدة الوطن