قبل أسبوعين عُقدت قمة تُعد تاريخية بين رئيس أميركا والصين في سان فرانسيسكو، وقد لا تكون نالت الاهتمام الإعلامي في منطقتنا العربية نتيجة أحداث حرب إسرائيل على غزة التي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين الأبرياء في عملية وُصفت بحرب إبادة جماعية من قبل دولة الاحتلال الصهيونية. وهذه القمة شكَّلت نقطة تحول مهمة في تاريخ الدولتين لكن أبعادها تمس العالم، فهما أكبر اقتصادين بالعالم ويشكلان نحو 43 بالمائة منه، إلا أن هذا اللقاء ليس كسابقاته من لقاءات زعماء الدولتين منذ أن زار الرئيس الأميركي نيكسون الصين عام 1972، وهي أول زيارة يقوم بها رئيس حكم أميركا لبكين، لأن العلاقات كانت مقطوعة بين الدولتين، وكما كان كيسنجر عرَّاب هذه الزيارة عاد التاريخ ليسجل من جديد دوراً له في التمهيد لحوار صيني أميركي، حيث زار بكين قبل أشهر عدة والتقى زعيم الصين وكبار مسؤولي الحكومة ووصفوه بالصديق لهم.
فهذه القمة تعيد للأذهان فترة الحرب الباردة والتي كانت ترتكز على قطبين في العالم بقيادة أميركا والاتحاد السوفيتي، حيث كانت لقاءات زعماء الدولتين التي تعقد سنوياً محور اهتمام العالم وتحظى بمتابعة دقيقة على كل الأصعدة الدولية، فاليوم نشهد بوادر ولادة مشروع قمم مشابهة لكن الطرف الأميركي ثابت والمتغير أن الصين حلت مكان الاتحاد السوفيتي الذي تفكك عام 1991، فهذه القمة تأتي بعد أن اشتد الخلاف بين الدولتين على قضايا عديدة ودخلا في حرب تجارية بدأها الرئيس السابق لأميركا ترمب إلا أن ما وضعه من رسوم جمركية إضافية ساهمت برفع تكلفة المعيشة على الأسرة الأميركية بواقع ألف دولار سنوياً، فاعتبرت خطوته بمنزلة من يطلق الرصاص على قدميه لأن أميركا تستورد سنوياً من الصين بما يصل إلى 536 مليار دولار بينما تصدر لهم بما يصل إلى 153 مليار دولار، أي أن الميزان التجاري لصالح الصين وهذا الحال مستمر منذ سنوات طويلة، بمعنى أن آخر عشرة أعوام بلغ عجز واشنطن بالميزان التجاري مع الصين أكثر من ثلاثة تريليونات دولار على الأقل، لكن العلاقة في طبيعتها أصبحت متشعبة لا تقف عند تجارة بينية بل أصبحت بكين هي مصدر لأميركا بدرجة كبيرة بل وللعالم الذي ظهر تأثره بانقطاعها خلال إقفالات جائحة كورونا، إضافة لاستثمارات الصين بسندات أميركا بنحو 850 مليار دولا والتي تعد مرتفعة رغم تراجعها من مستوى 1.1 تريليون دولار، وهذا التراجع له مدلولات غير إيجابية في علاقة الدولتين والثقة بينهما، فاجتماعهم الأخير جاء لوضع عهد ومرحلة جديدة للعلاقة المستقبلية التي ثبت أنه لا يمكن أن تصل للقطيعة، وأن فكرة الانفصال الاقتصادي عبَّر عنها وزراء أميركيون مثل وزيرة الخزانة بأنه أمر مستحيل ولو طبق سيدمر الاقتصاد العالمي.
لقد مرت الدولتان بأوقات عصيبة في مواجهاتهما بمختلف الملفات بدأت بالحرب التجارية ثم تحركات استفزازية في ملف تايوان، حيث زار مسؤولون برلمانيون من أميركا تايبيه تحديًا لسيادة الصين التي تعتبر تايوان جزءًا منها، لكنها فهمت المحاولة أنها لتأجيج ينتهي بحرب مع تايوان، فتعاملت مع الموقف بدبلوماسية واحتواء أرغمت إدارة بايدن أن تؤكد على سيادة الصين التي تشمل الجزيرة وإنها جزء لا يتجزأ منها، كما أن ما يقلق واشنطن تسارع خطوات الصين للاستقلال التكنولوجي، ققامت بمنع تصدير بعض أنواع أشباه الموصلات للصين وألزمت الشركات التي ستستفيد من برنامج دعم شركات أشباه الموصلات بأن لا تضع أي استثمار بهذه الصناعة في داخل الصين، كما عملت على حرمان شركات مثل هواوي من أي تكنولوجيا أميركية، فهي ترى أن الصين تسعى لتعزيز قوة جيشها وتسليحها بأنواع متقدمة من الأسلحة الذكية، لكن مع كل هذه الخلافات ومخاوف أميركا والغرب عموماً من فقدان هيمنتهم الدولية لصالح أقطاب على رأسها الصين إن لم تكن القطب الوحيد القادم لينازع الغرب على مكانته الدولية لكن بمفهوم جديد يقوم على الشراكات التجارية وضخ الاستثمارات وليس الحروب والتدخل بشؤون الدول الداخلية كما يفعل الغرب منذ عقود.
القمة الصينية الأميركية ستكون دورية مستقبلاً أي كل عام هذا ما يتضح على الأقل مثل حدث قبل أسبوعين في لقائهما الأول الذي وضع كل الملفات والخلافات على الطاولة وتم مناقشتها بما فيها التواصل العسكري بينهما فأميركا تعترف بهذه القمة ان الصين شريك دولي مهم يجب بناء علاقة معه على اسس مستدامة بالرغم من انها مازالت تعمل لكبح نمو الصين وإبطاء تطورها وتقدمها لكن من المؤكد ان النظرة تغيرت للتعامل الغربي عموماً مع بكين وأصبح ينظر لها كقطب حقيقي له كلمته ومكانته المهمة عالمياً.
نقلا عن الجزيرة