بدون أدنى شك فإن جميع دول العالم، التي آثرت الانخراط في السياسة على تنمية اقتصادياتها، تراجعت في قدراتها العالمية ومراكزها الدولية.
ومع ذلك لا زالت معظم الدول العربية تعول اليوم على تسخير السياسة لتحقيق أهدافها الإقليمية، وتتجاهل الاقتصاد لتتراجع في مراتبها التنافسية العالمية.
في آخر التقارير الدولية الصادرة في نهاية العام المنصرم 2013، تراجعت كافة دول الربيع العربي إلى ذيل المراتب.
هذه التقارير أوردت مثلاً حياً لدولة العراق، التي تحتل المرتبة 9 بين أكبر دول العالم في الموارد الطبيعية وكانت سباقة إلى تأسيس البنك الدولي مع 27 دولة أخرى لتصبح ثالث أكبر مساهم في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، تقهقرت اليوم للمرتبة 130 من بين 142 دولة في القوة الاقتصادية، واحتلت المركز 122 في التنافسية العالمية والمرتبة 3 كأكبر اقتصاد فاسد على وجه المعمورة.
في المقابل جاءت سنغافورة وهونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية، التي تستورد كافة مواردها النفطية ومعظم مواد صناعاتها الأولية، في مقدمة دول المعمورة في التنافسية العالمية والقوة الاقتصادية. ولعل أميركا تعتبر أفضل دول العالم في تسخير الاقتصاد لتحقيق نجاحاتها السياسية.
في أميركا اليوم حزبان رائدان: الأول ديموقراطي وشعاره "الحمار" والثاني جمهوري وشعاره "الفيل". في عام 1828 اختار المرشح الديموقراطي لرئاسة أميركا آنذاك "أندرو جاكسون" شعار "لنترك الشعب يحكم".
سخر أنصار الحزب الجمهوري من هذا الشعار ووصفوه بأنه شعبي ورخيص ونعتوا المرشح الديموقراطي باسم (آندرو الحمار)، فما كان من هذا المرشح إلا أن اختار حماراً حقيقياً رمادي اللون، جميل المظهر، وألصق على ظهره شعار حملته الانتخابية، وقاده وسط القرى والمدن المجاورة لمنزله من أجل الدعاية لبرنامجه الانتخابي الشعبي ضد منافسه الجمهوري، فأصبح "الحمار" شعاراً رسمياً للحزب الديموقراطي.
وفي عام 1860 قرر المرشح الجمهوري "إبراهام لنكولن" خوض الانتخابات أملا في توحيد أميركا، فاختار "الفيل" كشعار للتعبير عن القوة والثراء في حملته الانتخابية الثانية التي فاز بها فعلاً، ومنذ ذلك الوقت تحول "الفيل" إلى شعار رسمي للحزب الجمهوري.
واليوم يتفاخر أنصار الحزب الديموقراطي بشعارهم "الحمار" ويدللونه عبر تنظيم مسابقات لتصميم أفضل رسم له وتحويله إلى رمز للثورة والتمرد، بينما يتفاخر أنصار الحزب الجمهوري بشعارهم "الفيل" ويدللونه بالاهتمام الإعلامي في جميع المناسبات ليصبح رمزا للقوة والثراء.
ومع أن كلا الحزبين يختلفان بشدة في معظم سياساتهما وأهدافهما، إلا أنهما يتفقان فقط في سياستهما الخارجية التي تعتمد على المقولة الشهيرة: "ليست هنالك صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، وإنما هنالك مصالح دائمة فقط".
لذا يتفنن الحزبان في صناعة البدائل السياسية لأصدقاء اليوم، الذين قد يصبحون أعداء الغد، ويعدون العدة لتحقيق مصالح أميركا قبل المضي قدماً في تطبيق هذه البدائل المتضاربة بسيل من الدراسات الاستراتيجية والدعايات الإعلامية والصور الخيالية لإقناع الشعب الأميركي قبل إقناع شعوب العالم بمدى قدرة الحزبين على تنفيذ هذه البدائل وتحقيق أهدافها.
ولتحقيق أغراضها لجأت الأجهزة التنفيذية للحكومات الأميركية المتعاقبة إلى تأسيس مجموعة من الشركات متعددة الجنسيات ودعمتها بوسائل البحث العلمي والتطور التقني لتصبح العمود الفقري لتنفيذ سياسات أميركا الخارجية، وأغدقت عليها 42% من ناتجها المحلي الإجمالي، وفتحت أمامها الأسواق العالمية لزيادة أنشطتها المالية والتجارية والاستثمارية.
طبقاً لقائمة "فورشين" لأكبر 500 شركة في العالم، تحتل 155 شركة أميركية أفضل المواقع في العالم وتمتلك ثروة تزيد عن 23 تريليون دولار، لتعادل أكثر من 50% من إجمالي الناتج العالمي وتستأثر بحوالى 85% من إجمالي التجارة العالمية. وتتمركز هذه الشركات في مناطق الدول الصناعية المتقدمة رأسمالياً مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية ودول الخليج العربية، وذلك لبسط نفوذها الاقتصادي وقدراتها الاحتكارية.
في نهاية العام المنصرم 2013 احتلت أميركا المرتبة الأولى في عدد الشركات متعددة الجنسيات بنسبة 47%، وجاءت أوروبا في المركز الثاني بنسبة 33%، ثم اليابان وسويسرا بنسبة 6% لكل منهما و8% موزعة بين الدول الأخرى.
لذا حقق الاقتصاد الأميركي وفقاً لتقرير البنك الدولي الأخير أكبر ناتج قومي إجمالي في العالم بقيمة 15 تريليون دولار، يليه الاقتصاد الصيني بقيمة 9 تريليونات دولار، وجاء الاقتصاد السعودي في المرتبة 20، بينما حلت الإمارات في المرتبة 28، وكان المركز الأخير من نصيب الاقتصاد النيجيري الذي جاء في ذيل القائمة.
اليوم أعادت الشركات متعددة الجنسيات رسم خريطة الإنتاج على المستوى العالمي دون أن تستقر في بلد واحد، فهي تستخرج المعادن والثروات من دولة وتحولها لمواد نصف مصنعة في دولة ثانية لتنتج السلعة النهائية في دولة ثالثة، معتمدة بذلك على قدرات الدول ومقدار القيمة المضافة المحلية لكل دولة.
فأصبح من الصعب تحديد جنسية السلعة المنتجة لأنها تكونت كأجزاء من آلاف المصانع المنتشرة في العديد من الدول، وأصبح المستهلك يشتري الماركات العالمية التي لا تحمل شهادة المصنع أو الدولة، وإنما تتمتع بقواعد وأحكام المنشأ.
لذا انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة اندماج الشركات في كافة المجالات، معتمدة بذلك على براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية والصناعية وقواعد المنشأ وتراخيص الاستيراد والتصدير.
إذا أرادت الدول العربية أن تنجح في تطوير مجتمعاتها وتوفير فرص العمل لشعوبها وإعلاء شأنها، عليها أن تبدأ فوراً بإحلال الاقتصاد مكان السياسة في تعاملاتها واستغلاله الاستغلال الأمثل لتنجح في ضمان مستقبل أجيالها.
نقلا عن جريدة الوطن