استمرت الميزانية السعودية في تسجيل أرقام قياسية من حيث الإيرادات والاعتمادات المالية؛ وواصلت الحكومة سياسة إنفاقها التوسعي على مشروعات التنمية؛ باعتماد 855 مليار ريال لمصروفات ميزانية العام 2014م.
وسيطر قطاع التعليم على ربع الميزانية ما يعني استمرار التركيز على قطاع التعليم الذي يعتبر المحرك الرئيس للتنمية.
تحقيق فائض مالي في حدود 206 مليار ريال سيسهم في رفع حجم الاحتياطيات المالية إلى مستويات غير مسبوقة؛ وللأمانة؛ فتلك الاحتياطيات تكونت نتيجة ارتفاع أسعار النفط؛ وحجم الإنتاج؛ والإدارة الحكيمة للموارد؛ ما يجعل التعامل معها وفق الإستراتيجيات الاستثمارية الحصيفة غاية في الأهمية.
فالفوائض المالية لا يمكن ضمان استمراريتها؛ كما أن الطلب العالمي على النفط؛ قد يتغير مستقبلا؛ وبما يؤثر سلبا على أسعاره الحالية.
تركيز الاحتياطيات المالية في سوق واحدة مدعاة للقلق ولا شك؛ كما أن سيطرة السندات عليها يعني إضاعة فرص الربح البديلة التي يمكن تحقيقها من خلال الاستثمار في قطاعات مالية أخرى. عنصري الأمان والقدرة على التسييل السريع من الأمور المرجحة للتوسع الاستثماري في السندات؛ إلا أن الوضع المالي العالمي لم يعد قادرا على ضمان تحقيق الأمن للاستثمارات الخارجية؛ في الوقت الذي تخضع فيه عمليات التسييل (المفاجئة) إلى قيود مختلفة لا علاقة لها بالجانب المالي؛ ما يجعلها أكثر صعوبة مما نعتقد.
ومن هنا أعتقد أن التوزيع النوعي والجغرافي للإحتياطيات المالية هو الأنسب؛ والأكثر أمنا؛ وأعظم ربحية. التوزيع الجغرافي يوفر للاستثمارات حماية أكبر؛ كما أنه يوفر مزيدا من الفرص التي لا يمكن تحقيها إلا من خلال الانتشار الجغرافي المدروس.
أما التوزيع النوعي فيحقق هدفين رئيسين؛ الأول تنويع الاستثمارات وبما يحقق عوائد أعلى من عوائد السندات الحالية؛ والثاني تنويع عملة الاستثمار بما يضمن تحقيق التوازن الأمثل للقيمة الكلية للاحتياطيات؛ وتجنب المخاطر.
أعلم أن إعادة توزيع الاحتياطيات المالية تخضع لحسابات معقدة؛ لا علاقة لها بالقرار الاستثماري؛ إلا أن صعوبة اتخاذ القرار لا تعني استحالته.
زيادة حجم الاحتياطيات المالية بشكل كبير؛ في الوقت الذي تحتاج فيه البنى التحتية الأساسية؛ إلى استكمال سريع؛ قد لا يكون خيارا مثاليا للتعامل مع فوائض الميزانية.
فوفق مبدأ الأولويات؛ يفترض أن يكون لمشروعات البنى التحتية أولوية الإنفاق. فالتضخم يزيد من تكلفة المشروعات؛ ويخفض من قيمة الاحتياطيات التي تحقق عوائد سنوية تقل بكثير عن نسبة التضخم؛ هذا خلاف ما ستحققه مشروعات البنى التحتية من دعم لتحقيق التنمية المستدامة.
عدم قدررة الشركات المحلية على تحمل مزيد من المشروعات لا يعني وجوب الحد منها؛ فالحاجة الملحة للمشروعات الإستراتيجية تستوجب التعجيل في إنجازها من خلال الشركات العالمية القادرة على تنفيذ مشروعات عملاقة في فترة زمنية قصيرة وبجودة عالية.
التأخر في إنجاز المشروعات يعني اتساع الفجوة التنموية وبقاء الوضع الخدمي دون تغيير؛ نحن لا نتحدث عن دولة صغيرة يمكن تغطيتها بسهولة؛ بل عن شبه قارة تحتاج إلى عمل إستراتيجي منظم ومكثف لمعالجة القصور الخدمي.
نجحت الحكومة في خفض الدين العام؛ للعام العاشر على التوالي؛ ليصل إلى 75.1 مليار ريال؛ أي ما يعادل 2.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؛ متراجعا بنسبة 24 في المائة عن مستوياته في 2012، والبالغة 98.9 مليار ريال.
كنت أتمنى القضاء على الدين العام في أسرع وقت؛ للتخلص من فوائده المرتفعة؛ ولزيادة سيولة البنوك من أجل دعم التمويل التجاري والعقاري؛ إضافة إلى التخلص من الالتزامات المالية في حالة الرخاء الحالية تحوطا للأيام القادمة وتبدل الظروف.
استدعاء السندات يخضع لاتفاقيات ملزمة؛ تجعل حامليها أكثر إصرارا على بقائها لما تحققه من عوائد مالية مجزية؛ إلا إن مفاوضة الدائنين قد تسهم في الوصول لاتفاقية السداد المبكر مع حصولهم على بعض المزايا الربحية.
أعتقد أن القطاع المصرفي سيكون أكثر الرابحين من الإنفاق الحكومي التوسعي؛ فنمو القطاع المصرفي؛ ونمو ربحيته ارتبط بشكل كبير بالإنفاق الحكومي خلال السنوات الماضية.
يجب الاعتراف أن الإنفاق الحكومي بات المحفز الرئيس لنمو المصارف؛ من جانبين رئيسين؛ الأول استثمارها للسيولة المتاحة في السوق؛ والثاني توسعها في الإقراض التجاري المرتبط بقطاع الشركات؛ المستفيد الأكبر من سياسة الإنفاق التوسعية.
عاما بعد آخر تشهد الموازنة أرقاما غير مسبوقة؛ وإعتمادات مالية مهولة لإنجاز المشروعات؛ وتبقى العبرة في «كفاءة الميزانية لا أرقامها» وهي كفاءة يستوجب على الوزراء تحقيقها من خلال الإدارة الرشيدة؛ والإنجاز المثمر؛ فحياة الرخاء قد لا تدوم؛ والسنوات السمان قد يتبعهن سنوات عجاف؛ وما لم يكن التدبير والتحوط حاضران؛ فقد نواجه مستقبلا بالأزمات؛ لا قدر الله.
نقلا عن جريدة الجزيرة