لا شك في أن الأنظمة الاقتصادية التي تستمر عقوداً طويلة من الزمن لا يمكن تحويلها إلى أنظمة أخرى، مبنية على مفاهيم وقيم جديدة، بيسر ومن دون تعقيدات وأخطاء منهجية مكلفة،خصوصاً في ظل النظام السياسي ذاته الذي أسس قواعد العمل الاقتصادي القديمة.
لا يزال الاقتصاد الصيني، مثلاً، يعاني إشكاليات كهذه على رغم التحديث المتميز الذي قطع شوطاً مهماً في مسار البنية الاقتصادية، إذ لا تزال التدخلات السياسية مستمرة، ومنها الضغط على المصارف لدفع فوائد منخفضة على ودائع الزبائن وتأمين قروض ميسرة للشركات والوكالات المملوكة أو المدارة من القطاع العام، وثمة تقاعس في محاسبة الشركات التي تقترض من المصارف ولا تسدد التزاماتها وتحتاج أحياناً كثيرة قروضاً جديدة.
ويقابل هذا التساهل تقييد لاقتراض شركات القطاع الخاص الصيني يدفعها إلى الاقتراض من أنظمة غير قانونية،وبفوائد باهظة.
وحصلت شركات تمويل مشبوهة على تمويلات ميسرة من النظام المصرفي ما خلق مشكلات للمسؤولين الذين يحاولون وضع حد لهذه التمويلات عن طريق رفع أسعار الفوائد.
وأدت عمليات التمويل تلك إلى دفع المستهلكين وصغار المستثمرين إلى الاقتراض وتوظيف الأموال في استثمارات ذات أخطار عالية سعياً إلى تحقيق أرباح عالية.
ودفع ذلك أسعار العقارات والأسهم إلى الارتفاع من دون مبررات اقتصادية واضحة.
يحدث ذلك في الصين التي يُعتبر اقتصادها ثاني اقتصاد لجهة الحجم بعد نظيره الأميركي، فكيف بالبلدان النامية التي تحاول تطوير اقتصادات موجهة أو شمولية إلى اقتصادات سوق؟ فدول مثل مصر والجزائر وبلدان أفريقية جربت التخصيص، لكن أخطاء وارتباكات ضخمة حدثت.
ومن أهم الملاحظات على تجارب التحول في هذه البلدان، بروز ظاهرة الفساد في الأوساط البيروقراطية، إذ يحاول مسؤولون عن صنع القرار أو تنفيذه، الاستفادة في شكل غير مشروع من عمليات التخصيص أو إيصال الخدمات وكل ما له علاقة بالمشاريع.
ونشأت مصالح تحاول الاستفادة من التحول الاقتصادي، مثل اقتناء الأراضي من الدولة بدعوى الاستثمار، وبأسعار بخسة، ثم بيعها لمستثمرين بأسعار باهظة.
كل ذلك رفع التكاليف الاستثمارية بما عطل الجدوى الاقتصادية، وتراجع المستثمرون الجادون عن توظيف الأموال.
والمقلق أن كثيرين من الراغبين في الانتفاع غير المشروع يحتلون مواقع مهمة في التركيبة السياسية الحاكمة في البلدان الراغبة في التحول الاقتصادي.
وتتحفظ معظم البلدان التي تبنت برامج التخصيص أو التحول الاقتصادي عن تخصيص المصارف الرئيسة.
ففي مصر، مثلاً، لا تزال مصارف أممها النظام الناصري في الستينات مملوكة من الدولة ولم تجرِ محاولات جدية لبيعها إلى القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي.
وعلى رغم أن الحكومة المصرية شجعت تأسيس مصارف جديدة برؤوس أموال محلية وأجنبية، لا تلعب هذه المصارف الدور الحيوي المطلوب في الاقتصاد المصري ولا ترقى بقيمة أصولها إلى مستوى مصارف القطاع العام.
كذلك وعند بيع حصص يملكها القطاع العام في شركات مصرفية وغير مصرفية، تُثار مسألة التقويم العادل للأصول وهي خطوة ضرورية لاحتساب حقوق المساهمين ثم تحديد سعر البيع.
فبيع حصة القطاع العام في «البنك الوطني المصري» قبل سنوات تمثّل نموذجاً لهذا التقويم الخلافي للأصول.
وثمة قلق من التخصيص لدى أطراف في البلدان المعنية بالتحول الاقتصادي، خصوصاً في حال بيع أصول حكومية إلى مستثمرين أجانب، ولذلك تُثار قضايا إجرائية وقانونية لتعطيل عمليات التخصيص.
وتبقى مخاوف العاملين في المؤسسات الحكومية المدرجة للتخصيص على وظائفهم، مفهومة أكثر من مواقف السياسيين غير المتضررين.
ويواجه عدد من البلدان ذات الصلة ببرامج التخصيص معضلات خدمة الديون المحلية والخارجية ويشكو تراجع حصيلة الإيرادات السيادية، ولذلك قد يقبل المسؤولون عمليات التحول والإصلاح الاقتصادي نتيجة لضغوط مؤسسات مالية عالمية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي.
فهذا القبول قد يكون ناجماً عن متطلبات تمويل لا طوعياً، ولذلك تُعتمد الشروط على أسس قانونية ملزمة.
بيد أن التطبيق العملي قد لا يكون متوافقاً مع الشروط ولذلك تبرز تجاوزات في التطبيق وعمليات تعطيل متعمدة من الأجهزة الإدارية.
ويبدو أن غالبية القائمين على صنع القرار في بلدان نامية عدة، ومنها بلدان عربية، لا تؤمن بفلسفة الاقتصاد الحر وقواعد العمل به.
والسبب أن هؤلاء ينتمون إلى طبقات اجتماعية لم تملك الثروة ولم تصنعها إذ عملوا لسنوات طويلة في القطاع العام.
في المقابل هُمِّشت الطبقات الثرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين في بلدان نامية عدة، ومنه أفرادها من تمكن من تهريب جزء مهم من أمواله إلى بلدان متقدمة واستقر فيها، لكن كثيرين منهم فقدوا إمكانياتهم الاقتصادية تماماً.
وإذ لا تملك الطبقات التي يمكن أن تقود إصلاحات اقتصادية فاعلة أي أهمية في المجتمع السياسي ولا تشكل أحزابها السياسية، إن وجدت، تمثيلاً يذكر في الخريطة السياسية، تظل عمليات التحول محفوفة بمعضلات مزمنة.
نقلا عن جريدة الحياة