لا يجتمع فقه الإقطاع والنهضة الصناعية

04/05/2013 3
د. حمزة السالم

شكل الاقتصاد في كونه زراعياً أو رعوياً أو صناعياً هو الذي يقرر النظام الحاكم له من كونه إقطاعيا أو رأسمالياً. وهذا النظام الحاكم للاقتصاد هو الذي يقرر النظام السياسي من كونه ديمقراطيا أو ديكتاتوريا. 

مرت البشرية خلال تطورها المدني بمحاولات عدة لتحقق عدالة توزيع الثروات في المجتمع. فمن المزدكية المجوسية الاشتراكية التي تنادي بتشارك أفراد المجتمع لكل شيء إلى الإقطاعية الإمبراطورية التي تجعل الحاكم مالكا لكل شيء.

والمجتمعات الاقتصادية إلى قبل قرنين من الزمن كانت كلها اقتصاديات ريعية تقوم على الزراعة والرعي وما يلحق بهما من تجارة وغزو.

وقد جاء الإسلام ليتعامل مع النظام الإقطاعي بإقراره، ولكن بأحكام معاملات وسطية. وقد تحدثت عن هذا في مقال الأمس.

وانتهيت بأن النهضة الصناعية لم تكن لتستمر وتتطور لو أنها قامت على أيدي المسلمين وهم على جهلهم في دينهم وتمسكهم بفقه التقليد الذي كانوا وما زالوا عليه. 

فالتوزيع العادل للثروات هو من سنن الله الكونية، وقد خلق سبحانه السوق على ذلك، لا يخرج مجتمع اقتصادي عن سنة الله إلا ويتعطل اقتصاده فورا ثم ينتهي إلى الفشل عاجلا أو آجلا. والسوق عرض وطلب.

ومطالب البشر لا تنتهي، ولكن العرض محدود بالموارد الاقتصادية. والموارد الاقتصادية محدودة النمو في الاقتصاد الريعي -كالزراعة والرعي- ومحدودة وغير متجددة في الاقتصاد الحربي -القائم على الغزو- ولكنها غير محدودة النمو والتطور -نوعا ما- في الاقتصاد الصناعي. 

والتأمل في أصل الشرائع السماوية قبل تحريفها وتأويلها، ينور لنا بصائرنا على إدراك سنة الله التي خلق ديناميكية السوق عليها.

وعند التأمل سنجدها أنها تدور حول التوزيع العادل للثروات. وعليه فالتحديد الصحيح الموضوعي لمفهوم التوزيع العادل للثروات هو منطلق فهم النصوص الشرعية لكي نتمكن من تنزيلها بالأصول الشرعية المنطقية على الاقتصاد الحديث.

وقد بينت في مقال الأمس بأن الإسلام لم يتصادم مع الإقطاعية بل هذبها. ومع استصحاب هذا إلى واقع اليوم نستنتج بأن التوزيع العادل للثروات يجب أن يُبنى على أساس أن يزيد هذا التوزيع من هذه الثروات في المجتمع ككل ليغتني المجتمع كله، لا لكي يفتقر الناس جميعا.

ولكي تزيد ثروة المجتمع في الاقتصاد الريعي الذي يحكمه نظام إقطاعي فلا بد من تركز الثروة في افراد معدودين بينما يعيش الباقي حد الكفاف، وهذا ما جاءت به نصوص الشرعية للمعاملات من تحديد الزكاة في نسب بسيطة ومنع الضرائب.

والنظام الإسلامي هو أفضل نظام يحقق الاستغلال الأمثل لديناميكية السوق الريعية الاقطاعية، التي كانت قائمة قبل النهضة الصناعية. 

ومع دخول عصر الصناعة أصبح لزاما توفر طبقة وسطى غالبية قادرة على شراء حاجيات فوق حد الكفاف لكي تستطيع هذه الطبقة تحفيز الإنتاج. فجاءت الأنظمة الرأسمالية التطبيقية الحديثة المعدلة من الرأسمالية النظرية الأولى، ففرضت ضرائب تصاعدية على الأثرياء تتزايد كلما زادت الثروة حتى تصل إلى 70% .

وبهذه الضرائب تستطيع الدولة توفير الحاجيات الأساسية للناس من طب وتعليم وخدمات كما تترك الفسحة لعزيمة المنتج على الاستمرار في زيادة الانتاج وتطويره. 

ولو جاءت النهضة الصناعية الحديثة على أيدي المسلمين لأصبحت المجتمعات الإسلامية عمالة مُسخرة في يد قلة قليلة.

فالضرائب مُحرمة والزكاة لا تتجاوز 2.5% في المال العاطل عن الانتاج. وهذه النسبة مثالية في اقتصاد ريعي إقطاعي ولكنها ضئيلة وممتنعة في اقتصاد صناعي.

فلا زكاة في مصنع ولا ما ينتجه إلا بعد مضي حول يكون صاحبه قد وضع نتاجه في قصر له أو ضيعة فيحاء أو صرفه على ترف وحرير وذهب وخدم وحشم. وبالطبع هذا افتراض نظري غير واقعي.

فإنه لو جاءت الصناعة على أيدي المسلمين لما كان لها أن تتطور وتنمو. فالإقطاعية التي سيخلقها فقه التقليد ستمنع نشوء الطبقة الوسطى التي تستطيع شراء المنتجات الصناعية، وأجور العمالة عرض وطلب.

وبالتالي سيتوقف المنتجون عن الإبداع في الإنتاج والتنافس في تعظيم حجمه. ولو حصل هذا فإن الاقتصاد سيعود للاقتصاد الريعي، اللهم إنه قائم على حد كفاف تدوير الزكاة. 

التفريق بين الوسائل والغايات في الأحكام الشرعية أمر جوهري في استنباط الأحكام بالأدلة الشرعية، لا بالهوى ودعوى المقاصد.

وقد حرم عليه الصلام والسلام الضرائب لأنها وسيلة إلى ظلم الحكام. ومن هنا يأتي ما ذكرته في بداية المقال وهو أن شكل الاقتصاد يحدد نوع سياسة الحكم. فتركز الثروة في أيد معدودة منتجة هو: لازم من لوازم تطور ونمو الاقتصاد الصناعي. ووجود طبقة غالبية وسطى تملك القوة الشرائية هو: لازم لاستمرار النمو والتطوير الإنتاجي. فكانت الضرائب التصاعدية حلا جامعا بين المتناقضين. 

والدكتاتورية المُتمثلة في حكم الفرد المطلق هي حافز قوي لإساءة الضرائب، ولذلك فرضت الديمقراطية نفسها على النظام السياسي للاقتصاديات الصناعية.

والمقال لا يتسع للتفصيل. ولكن بإشارة بسيطة، فإنك ترى الضرائب في الدول الإسلامية على السلع والخدمات الحكومية، لا على الدخل والثروات. فلو كانت الضريبة 5% مثلا فهذا يعني أن الفرد الذي يستغرق دخله الشهري في حاجيته يُقتطع من دخله 5% ضريبة.

وأما الغني فلا تشكل هذه الضريبة نسبة تذكر من دخله الكبير. أي أنها ضريبة تنازلية نسبتها أعلى على الفقير وتتنازل كلما زاد دخل الفرد. وللضرائب والزكاة والاقتصاد والسياسية نصوص شرعية محكمة صالحة لكل زمان ومكان، لو لم نجمد على فقه التقليد أو نركض إلى فقه الرأي المجرد عن التأصيل بالدليل، وعسى أن يكون هذا مجال مقال الأسبوع القادم. 

نقلا عن جريدة الجزيرة