مصيدة الدخل المتوسط والصناعة «4»

06/10/2020 0
فواز حمد الفواز

في المقال الماضي قدمنا بعض ملامح الخلفية التاريخية الخاصة بتجربة المملكة بناء على التجربة التاريخية والنموذج المقترح طبقا للورقة البحثية. لا بد من استراتيجية تصنيعية معلنة أكثر دقة تأخذ بالنموذج بناء على ما لدينا من مقومات، كثير منها يشكل قاعدة معتبرة قابلة للتحديث. استراتيجية التصنيع حسب علمي ما زالت في طور النقاش، ولذلك هناك فرصة للتداول وتغيير الحالة الذهنية كي نتعامل بالمستجدات بطريقة أخرى. أصعب خطوة تكوين إجماع ولذلك أقترح التفكير من خلال مرحلتين: المرحلة الأولى تأتي من خلال ثلاث خطوات تستطيع بناء جسور بين النظري والتطبيقي: 1 - استحضار حالة ذهنية جديدة من خلال استراتيجية جديدة (لم تنشر استراتيجية الصناعة حتى الآن) توضح خريطة طريق مستلهمة من التجربة التاريخية ومدى تطابقها مع المرحلة الحالية، كي تأخذنا إلى استراتيجية مستقبلية واضحة المحطات. 2 - لعل أكبر تحد في إعادة تركيبة الهياكل العمالية والتعليمية والسلوكية للتخلص من تبعات الرفاهية التي جاءت غالبا دون المرور بحالة تصنيع متوسطة وخفيفة. 3 - النظر للصناعة كرأس حربة للتنمية، إذ عمليا يصعب الفصل بين التنمية الاقتصادية وممارسة التصنيع.

المرحلة الثانية أكثر عملية تتعامل مع الممكن في ظل إطار المرحلة الأولى. مراجعة حصيفة وصريحة للمقومات الوطنية الحديثة مثل البنية التحتية في الاتصالات وتوافر المال النسبي والاستثمار في التعليم (بعد تحديث عميق، لا بد من الخروج على الهيكل التعليمي التقليدي، فهذا لم يعد يخدمنا) والاستمرار في ارتقاء صناعة المواد البتروكيماوية والطاقة المتجددة (لعل من حسن الطالع أن الطاقة المتجددة أكثر اعتمادا على الطاقة البشرية من الطاقة الهيدروكربونية ربما إحدى صدف التحولات الاقتصادية غير المتوقعة. هناك إغراء القفز على المراحل التاريخية (البعض يقول ببعض الموضوعية: لا بد من البدء من حيث انتهى الآخرون) مثل الصناعة الرابعة كما بدأت في مدينة الملك عبدالعزيز للتقنية والطباعة ثلاثية الأبعاد، تقنيات تسمح بالتعامل في المجتمعات السكانية الأقل كثافة مثل بعض المصنعات، وأحيانا في بعض المناطق الأقل كثافة سكانية، لكن الاستعداد للقفز يتطلب حسابات مختلفة.

القفز ينجح في حالات نادرة لكنه يتطلب تخطيطا أكثر دقة، أعتقد أنه خيار جيد شرط التفكير بشمولية وعمق. أحد المعالم الطيبة التوجه لاستغلال الميزة النسبية في توليد الطاقة الكهربائية من الشمس بنسبة تصل إلى 50 في المائة في 2030. كذلك هناك ضرورة للاهتمام بصناعة التمور والزراعة والأسماك في بعض مناطق المملكة وأي مقومات أخرى ذات ميزة نسبية طبقا لخريطة تطوير السوق. الميزات النسبية اليوم ستختلف حتما عن الميزة النسبية في المستقبل، ولا أحد يعرف ماذا ستكون مستقبلا إذ هذا سيعتمد على ما نأخذ به من استراتيجيات اليوم والسرعة في التنفيذ وحالة الأسواق العالمية والمحلية وتوافر بيئة تسمح بالإبداع والبحث العلمي والمرونة في السياسات العامة ومستوى التعليم. كذلك تحذر الورقة من بعض السياسات التي لم تحقق نجاحا لكنها رائجة في كثير من الدول، مثل التوجه القوي نحو سياسات الاكتفاء الذاتي التي ينتهي كثير منها بتأسيس شركات وطنية غير قادرة على المنافسة العالمية وتصبح عبئا على المالية العامة ويصعب التخلص منها لأن المصالح تعمقت وتشعبت. كذلك هناك من يراهن على الخدمات وهذا ناقص لأنها ربما تساعد على امتصاص بعض البطالة لكن بأجور زهيدة غالبا، كما أن الخدمات المتقدمة تعتمد على الصناعة.

أنجزنا كثيرا للوصول إلى المرحلة الجيدة التي وصلنا إليها ربما بطريقة غير تقليدية ولو أنها ليست الأولى في التاريخ الاقتصادي. الورقة قدمت فكرا مختلفا حتى وصفة عملية لكن العملية التنموية معقدة ومختلفة حسب خطط وظروف كل دولة وطبيعة مجتمعها وقدرة نخبها، لكن هناك ما يكفي للاستفادة. في نظري ليس المهم أن نكون مع أو ضد فكرة "مصيدة الدخل المتوسط"، أو حتى تسلسل النموذج المقترح، لكن التوصل لنموذج خاص بنا يناسب المرحلة والطموح والعزيمة كما عبر عنه ولي العهد. الورقة تحث على تقدير الخطوات الاقتصادية ورصدها ممثلة في التصنيع وسلم الارتقاء فيه كشرارة مستدامة للنمو الاقتصادي والتنمية.

 

نقلا عن الاقتصادية