في البداية، لا بد من التنويه بأن توظيف الإسقاط جذاب منهجيا، لأن التجربة البشرية واحدة، وإن اختلفت التفاصيل، لكنه أيضا يتضمن محاذير، لأن عملية التحديث معقدة وتلعب الظروف والجزيئات الصغيرة أحيانا دورا كبيرا، سلبيا وإيجابيا. وطبقا للتأطير النظري والتجربة التاريخية - كما ذكرنا في العامودين السابقين - فإن النموذج الناجح والمجرب للتنمية الاقصادية يقوده توجه صناعي ينتقل من الزراعة العرفية إلى الصناعات الريفية إلى الخفيفة ثم الثقيلة ثم الخدمات، يخدمها وعي بتكوين السوق في كل مرحلة، في ظل وجود الاستقرار السياسي والثقة العامة والبنية التحتية. يقود التقدم حكومة ذات نزعة تجارية وخطط تصنيعية واعية، تبدأ بالميزة النسبية وتراهن تدريجيا على تغير هيكل الصناعة والأسواق. ما نطرح في العامود محاولة تتبع التجربة الوطنية ومدى مواءمتها للنموذج والتجربة، كما وردت في الورقة البحثية. لعل السؤال المركزي، أين التجربة الوطنية من هذا الطرح؟
أركان البيئة العامة الثلاثة كلها متوافرة، مثل الاستقرار السياسي والثقة العامة والبنية التحتية "على الأقل بالمستوى الممكن للصناعة"، بل إن الثقة العامة ارتفعت بسبب إجراءات عامة تنظيمية وعملية، مثل إنهاء احتكار مجموعة بن لادن وسعودي أوجيه في المقاولات "حيث كانت أقرب إلى مؤسسات عامة بملكية خاصة"، وفتح قطاعات جديدة مثل السياحة وتأسيس صندوق سيادي، لكن ربما أكبر عامل لرفع الثقة ما زال مكافحة الفساد، طبقا لتوجيه ولي العهد. لعل الاختلاف الأساس من النموذج النظري والتجريبي، كان في النزعة التجارية والخطط التصنيعية، خاصة في جانب الوعي بالحاجة إلى التسلسل في إيجاد السوق. لظروف موضوعية، جاءت بسبب الارتفاع المفاجئ تاريخيا لأسعار النفط منذ بداية السبعينيات، لم تتمكن الزراعة التقليدية والصناعات الريفية من التكيف، بما في ذلك البشر والقدرات التنظيمية.
قامت قيادة المملكة بجهد منظم ومدروس في محاولة تعظيم المصلحة الوطنية في الصناعات البتروكيماوية، كرهان على الميزة النسبية، لكن هذه - كما ذكر البحث - صناعة رأسمالية ثقيلة، خفيفة الاعتماد على الطاقات البشرية، سبقتها صناعة النفط، ولذلك كان شيوع المعرفة الفنية للقطاعات الأخرى محدودا نسبيا. المستقبل الصناعي يبدأ بقدرتنا على التساؤلات الصحيحة والعمل بما لدينا. الظرف الموضوعي، الذي يواجه الاقتصادات المتوسطة مختلف، ما يجعلها دائما في وضع تنافسي صعب، فهي بين الاقتصادات ذات العمالة الرخيصة من أسفل السلم، والاقتصادات المتقدمة من حيث تكلفة المعرفة التقنية والأجور العالية من أعلى السلم.
منهجيا، أول تحد يواجه القرار التنموي في المملكة، المواءمة بين اقتصادات اليد العاملة وتوافر رأس المال وحالة التقنية والقدرات التنظيمية. تحليليا، توقيت توافر المال لم يسعف المقدرات البشرية والفنية، لذلك منطقيا لجأت المملكة إلى الاستقدام بقوة. قام الاستقدام بتوفير العمالة الأقل تكلفة وكأنها بهذا تشبه تجارب الدول، التي نجحت صناعيا وتنمويا في الاعتماد على العمالة الأقل تكلفة. لكن المقارنة خادعة، لأن الشروط التبادلية بين رخص العمالة والارتقاء بالتقنية الأعلى تكلفة، لم تحدث على نطاق واسع أو بالحجم الكافي، لأن الاستثمار في العمالة الوافدة لا يمكن أن يكون جزءا عضويا من عملية تطوير ذاتية عميقة. ربما تسهيل الاستقدام كان ضروريا لبناء البنية التحتية فقط، لكن سهولة الاستقدام استمرت، حيث انتقلت إلى العمالة المنزلية، ثم التجارة والخدمات والصناعة في القطاع الخاص. ساعد على ذلك رغبة القطاع العام في التوظيف لتحقيق أكبر قدر من الرفاهية للمواطنين. هذا السياق أعاق عملية التحديث، حيث وصلت أعداد لا يستهان بها من السكان إلى مرحلة الرفاهية دون المرور بعمليات الإنتاج التي تفرز القدرات وتصقل المواهب. هذا عن الماضي وإلى حد ما الحاضر، لكن الأهم المستقبل. اكتملت التجربة البشرية وتغير الوضع السكاني وشيوع المعرفة ونضجت التجربة. لذلك، جاءت "الرؤية" في اللحظة المناسبة لإعادة الهيكلة وتأطير الصناعة من الحيثيات والعوامل والفرص الموجودة اليوم.
فرصة المملكة عالية من التمكين والتمكن في الصناعة في حال تطوير سياسة تصنيعية مناسبة مبنية على قراءة واقعية وعميقة للظروف والمستجدات. استعرضنا جزءا من الخلفية الاقتصادية، وفي العمود المقبل والأخير، نقدم ما أرى أنه نواة خطة جديدة.
نقلا عن الاقتصادية