الأسواق العالمية وعامل الزمن

25/03/2013 3
محمد عبد الله العريان

- منطقة اليورو 

- البنوك المركزية

- مزيج ومجازفة

- قلق المستثمرين

- تأثير السياسة

كان الانقسام في الأشهر الأخيرة بين الأسواق المالية المزدهرة من جهة والاقتصادات المتكاسلة والسياسات المختلة من جهة أخرى يظهر بشكل كبير. ورغم هذا فإن قدرا ضئيلا من الاهتمام يكرس لعامل بالغ الأهمية هو الوقت، ومن يتحكم فيه، والذي قد يعني الفارق بين التوصل إلى حل عالمي منظم ومنسق للتناقضات المتنامية اليوم والتقهقر إلى مرحلة أكثر اضطرابا.

كانت الأسواق نشطة لسبب مفهوم في الربع الأول من هذا العام، إذ إن أغلب البيانات الاقتصادية تؤكد أن الاقتصاد الأميركي يتعافى الآن وبشكل متسارع، بعد الصدمة التي أصابته نتيجة للأزمة المالية العالمية.

والآن بات التسلسل ثابتا ومؤكدا، فقد بدأ الأمر بشركات كبيرة متعددة الجنسيات، والتي تستند على أساس صلب بقدر ما أتذكر. وبدأت الشركات الأصغر حجما تتعافى بالتدريج وأعادت البنوك بناء احتياطياتها من رأس المال وقلصت أصولها المشكوك فيها، واستقر قطاع الإسكان وبدأ عدد متزايد من الأسر في إعادة بناء موازنات أكثر متانة، خاصة مع استئناف تشغيل العمالة تدريجيا.

ويفيد تعافي القطاع الخاص على هذا النحو الموارد المالية الحكومية. فقد كان منحنى عجز الموازنة الأميركية في اتجاه تنازلي في الوقت الراهن، بفضل ارتفاع العائدات وانخفاض الضغوط على الإنفاق (على سبيل المثال تراجعت إعانات العاطلين مع انخفاض مستويات البطالة).

كما كانت عملية التعافي واضحة في أوروبا، ولو أنها لسوء الحظ اقتصرت فعلياً على أسواق السندات السيادية،فلا يزال الاقتصاد الحقيقي خاضعا لضغوط هائلة في العديد من الدول،مع انكماش الاقتصادات وبقاء البطالة عند مستويات مرتفعة بشكل مقلق.

منطقة اليورو

بعد الاقتراب من الكارثة في يوليو/تموز الماضي انخفضت الفوارق في أسعار الفائدة على سندات منطقة اليورو عموما، وتراجع التفكك المالي ببطء (على الأقل قبل أن يسلك المسؤولون الأوروبيون المسار المثير للجدال بمحاولة فرض الخسائر على الودائع المصرفية المضمونة في قبرص). 

فضلاً عن ذلك وكما أثبت الإصدار الناجح لسندات السنوات العشر بقيمة خمسة مليارات يورو في إيرلندا في منتصف الشهر الجاري، فإن بعض الدول بدأت عملية استعادة قدرتها الطبيعية فيما يتعلق بالوصول إلى أسواق رأس المال.

واستمد تأثير هذه الاتجاهات على الأسواق المزيد من الزخم من البنوك المركزية، التي تُعَد أوفى صديق لأسواق المجازفة. ولم يكن هذا راجعا إلى رغبة هذه البنوك في الاضطلاع بهذا الدور؛ بل لأن ارتفاع أسعار الأصول يشكل ضرورة أساسية إذا كان للبنوك المركزي أن تحظى بأي فرصة لتحقيق النتائج الاقتصادية المرجوة والمتمثلة في زيادة النمو وتعزيز خلق فرص العمل.

البنوك المركزية

وكان هذا أشد وضوحا في الولايات المتحدة، حيث تعشق الأسواق الرهان الثلاثي من جانب بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي على أسعار الفائدة التي تقترب من الصفر (والسلبية بالقيمة الحقيقية)، والطابع الهجومي لتوجهات السياسات، والمشتريات من الأصول، وكل هذا من شأنه أن يدفع المستثمرين إلى خوض المزيد من المجازفة.

كما ترحب الأسواق بحقيقة مفادها أن التجريب المفرط النشاط من جانب المركزي الأميركي يرغم البنوك المركزية الأخرى في مختلف أنحاء العالم على ملاحقة سياسات أكثر توسعا.

ومن سياسة الدوران للخلف الدرامية التي انتهجها بنك اليابان المركزي إلى القرار المفاجئ الذي اتخذه البنك المركزي المكسيكي بخفض أسعار الفائدة فإن النهج الذي تبناه بنك الاحتياطي الفدرالي يؤثر على البنوك المركزية في عدد متزايد من الدول.

فبعد دفعها لمسافة أبعد عن أفضل السيناريوهات أصبحت البنوك المركزية غير قادرة على تجاهل تأثير السيولة العالمية الذي خلفته سياسات بنك الاحتياطي الفدرالي، غير أنها لا تزال تفتقر إلى الأدوات الصحيحة اللازمة لمعالجة هذا التأثير.

مزيج ومجازفة

كما أن هذا المزيج، الذي يتألف من التعافي الباطني المنشأ والرياح المواتية القوية التي تهب من البنوك المركزية، بما في ذلك تعهد البنك المركزي الأوروبي "بالقيام بكل ما يلزم"،ساعد الأسواق في نفض غبار الشكوك السياسية المزعجة عن نفسها، وسواء كان ذلك راجعا إلى الاستقطاب الذي أدى إلى الشلل السياسي في الكونغرس الأميركي أو التصويت الاحتجاجي في إيطاليا ضد النظام السياسي الراسخ فإن الساسة مُنِحوا الآن الوقت اللازم للتغلب على الخلل في أدائهم، وبالتالي تقليص أي تأثير تخريبي فوري.

ومن المفهوم أن يفسر المستثمرون كل هذا باعتباره ضوءا أخضر لخوض المزيد من المجازفة. ومع الانفعال الصاخب هذا الشهر حول الأرقام القياسية الثمانية المتعاقبة التي سجلها مؤشر داو جونز الأميركي (والعديد من الأرقام الأخرى في مختلف أنحاء العالم)، فإن هذه الإثارة تحض المزيد من المستثمرين على اقتحام أسواق أصول أكثر مجازفة.

قلق المستثمرين

بيد أن هذه الإثارة لم تكن خالية من القلق، فالمستثمرون يشعرون بالقلق إزاء العواقب الطويلة الأمد المترتبة على الاختلال الوظيفي السياسي، وعلى سنة أخرى من انكماش الاقتصاد الأوروبي، ومعدلات البطالة المرتفعة إلى مستويات مأساوية، والسياسات غير المسبوقة -وبالتالي غير المجربة- التي تتبناها البنوك المركزية، وتفاقم التوترات العالمية.

كما كان تخبط عملية إنقاذ قبرص مؤخرا مثيرا للانزعاج أيضا. ولا عجب أن يعد بعض المراقبين الانتعاش الأخير للأسواق "واحدا من التحركات الأكثر إثارة للمخاوف" في التاريخ.

إن هذا المزيج من الإثارة والقلق هو في واقع الأمر مؤشر على الاقتراب من مفترق طرق يواجه المستثمرين،فأحد الطرق، والذي ينطوي على انتقال منظم نسبيا من التعافي بمساعدة السياسات إلى النمو المدعوم ذاتيا،ينطوي على احتمال تحقيق مكاسب مالية كبيرة، حيث تسهم الظروف الاقتصادية والسياسية السريعة التحسن في إضفاء المشروعية على المستوى المصطنع حاليا لأسعار الأسهم وتدفعها إلى الارتفاع.

أما الطريق الآخر فهو أقل جاذبية إلى حد كبير، حيث تؤدي عملية التعافي الذاتي غير المكتملة وعجز الاقتصاد عن اكتساب زخم النمو، وضعف فعالية السياسات التي تنتهجها البنوك المركزية، وتفاقم الخلل الوظيفي السياسي إلى خسائر مالية وتقلبات حادة وتحديات ضخمة في ما يتصل بإدارة المخاطر.

تأثير السياسة

ونظرا للشكوك الحالية المحيطة بالسياسة والسياسات -والتوازنات المتعددة المترتبة عليها- بات من الصعب أن نتكهن بدرجة عالية من الثقة بأي الطرق التي قد نسلك في نهاية المطاف ومتى، أما هؤلاء الذين يزعمون غير ذلك فربما يفشلون في تقدير طبيعة الاستثنائية للموقف الحالي بشكل شامل.

في ظل هذه الظروف قد لا يكون التوقيت هو كل شيء، ولكنه قد يثبت كونه عاملا رئيسيا في تحديد الاحتمالات. وإذا تسارعت وتيرة الرحلة إلى مفترق الطرق بفعل صدمة جيوسياسية كبيرة (ناشئة في الشرق الأوسط أو كوريا الشمالية على سبيل المثال)، و/أو انهيار سياسي خطير في أوروبا (على سبيل المثال الانهيار في قبرص أو الشلل السياسي المزمن في إيطاليا) فإن احتمالات سلوك المسار السلبي ترتفع إلى مستويات عالية إلى حد غير مريح على الإطلاق.

ولكن إذا تمكنت البنوك المركزية من احتواء التناقضات المحلية والعالمية لفترة طويلة بالقدر الكافي، فإن اقتران عملية التعافي الذاتي بالتقدم السياسي في نهاية المطاف من شأنه أن يعمل على تحسين توزيع الاحتمالات بصفة كبيرة.

ولا ينبغي أن يخامرنا أي شك بأن أسواقا صارت تعتمد اليوم بشكل كبير على القول المأثور القديم "الزمن يداوي كل الجراح"، وتتولى البنوك المركزية عملية ضبط الوقت ومراقبته. ولكن قدرتها على التحكم في عقارب الساعة ليست كاملة، وسوف تفقد فعاليتها بشكل متزايد إذا واجه التحسن الاقتصادي ريحا معاكسة إضافية في الأشهر المقبلة.

نقلا عن الجزيرة نت