الإنفاق الاستثماري أيضاً... قرار شعبي

18/11/2012 0
عبادة أحمد


"الديمقراطية دائماً موقتة في طبيعتها، إنها ببساطة لا يمكن أن تشكّل شكلاً دائماً للحكم. ستظل الديمقراطية قائمة إلى الوقت الذي يكتشف فيه الناخبون  أن بإمكانهم أن يصوّتوا لأنفسهم، للحصول على الهدايا من خزينة الدولة. واعتباراً من تلك اللحظة، ستصوّت الغالبية للمرشّحين الذين يعدونهم بأكثر المزايا من المالية العامة، والنتيجة أن كل ديمقراطية ستتقوّض في النهاية بسبب ضعف السياسة المالية، لتحل بعد ذلك دائماً... الدكتاتورية".

صاحب الكلمات أعلاه لم يقرأ التقرير الخطير للجنة الاستشارية الاقتصادية عن الاختلالات الهيكلية للمالية العامة في الكويت.

تعود هذه الكلمات إلى القرن الثامن عشر، وصاحبها هو البروفسور االاسكتلندي الكسندر تايلر (1747- 1813م)، وحديثه هنا، يا للمفارقة، عن انهيار الجمهورية الأثينية قبل نحو ألفي سنة. ولم يخيّب التاريخ ظن من يتهمه بأنه يكرر نفسه، فقد كررت الديمقراطية فعلتها في اليونان بعد ألفي سنة، وها هي تعيش أزمة غير مسبوقة بفعل تسابق الأحزاب المتنافسة على شراء رضا الناخبين بالمال العام.

بين الكويت واليونان فارق واحد، لونه أسود، ويسمّى النفط. طالما أن الدولة تستخرجه وتبيعه وتحقق سنوياً فوائض بعشرات مليارات الدولارات فلن يشعر كثيرون بخطورة تهافت ممثلي الشعب على تحقيق رغبات الجماهير بالاستحواذ على "كرم" الحكومة، بمقابل ضئيل  منا لجهد أحياناً، ومن دون مقابل في غالب الأحيان.إن صدقت التوقعات بتأجيل "السخاء الحكومي" إلى ما بعد الانتخابات، فستكون أمام النواب الجدد مسؤولية حسّاسة ومرتبطة بمستقبل البلاد، لا مجرّد هديّة سياسية للمجلس الجديد.

الإنفاق الحكومي ليس شراً، بل إنه مطلوب أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. واستفادة المواطنين من الفوائض ليست شراً، بل إنها مطلوبة دائماً، (مع مراعاة حسن توزيع الثروة بين الأجيال).

ليس خافياً أن ضرورات اللحظة السياسية قد تقتضي بعض القوانين الشعبية التي تفتح خزائن الإنفاق، لكن السؤال الوجيه "أين تنفق الدولة؟" وليس "هل تنفق الدولة؟". مشكلة الكويت المزمنة تكمن في ضعف الإنفاق الحكومي حيث يجب أن يكون الإنفاق، وزيادته حيث يكون الإنفاق مُضرّاً وخطيراً.

رقم 21.2 مليار دينار للمصروفات الحكومية في ميزانية هذا العام كان من الممكن ألا يكون سيئاً، فقط لو أن ضخامته كانت موجهة لبناء بنية تحتية واستثمارية لاقتصاد عملاق، يليق بإيرادات البلاد من الثروة النفطية.
هذه قطر، مالئة الدنيا وشاغلة الناس. ميزانيتها للعام 2012 تبلغ 206 مليارات ريال، أي ما يعادل 16 مليار دينار كويتي. وبغض النظر عن الاختلافات بين البلدين، فإن من الواضح أن قدراً هائلاً من الإنفاق يصل إلى عمق الاقتصاد ويُحدث نهضة هائلة ومعدلات نموٍ من خانتين.

أما في الكويت، فالإنفاق الرأسمالي ما زال ضئيلاً، إذ إنه لم يتجاوز 5 في المئة من الناتج المحلي العام الماضي ونحو 10.6 في المئة من إجمالي المصروفات الحكومية، أي ما يعادل واحد على خمسة تقريباً من الإنفاق الجاري، الذي بلغت نسبته 49.4 في المئة. وما تبقى يذهب للمدفوعات التحويلية، ومعظمها للمؤسسة العامة للتأمينات.

إذا كان الإنفاق آتياً لا محالة، فلا بد من تسجيل بضع ملاحظات برسم النواب العتيدين:
• المقترح القاضي بزيادة القرض الإسكاني إلى 100 ألف دينار يحتاج إلى دراسة أعمق لتأثيره على الاقتصاد. فهناك أصوات خبيرة تحذّر من أن خطوة كهذه سترفع الأسعار، ولن يتجاوز أثرها زيادة عبء المديونية على المواطنين.

• لا بد من الإقرار بأن هناك مشكلة تتمثل في أن شريحة كبيرة من الطبقة العاملة من المواطنين لا تلمس ثمار ازدهار القطاع الخاص، لأنها ببساطة موظّفة في القطاع العام. وهذا بدوره يجعل اهتمام النواب كلّه منصبّاً على تحسين مزايا العمل في القطاع العام، لأن الناخبين الذين يتحدّث عنهم البروفسور تايلر يعملون هناك. وهذا الوضع يمثل خطراً داهماً لأنه يلقي بكل عبء تسيير الاقتصاد على الدولة، التي وإن كانت قادرة على النهوض بهذا العبء اليوم فإن من المستحيل أن تظل كذلك على المدى البعيد. حال الدولة هنا كحال السيارة الغارقة في الرمال، كلما دارت عجلتها أكثر ازداد غرقها. كلّما ازدادت المزايا الحكومية غير المرتبطة بالإنتاج ازداد الخلل الهيكلي في العمالة، وصار القطاع الخاص أكثر عجزاً عن مساعدة الحكومة في تحمّل الأعباء.

• أخيراً؛ الاقتصاد المعافى يملأ جيوب المواطنين، أما ملء جيوب المواطنين فلا يصنع اقتصاداً معافىً. ففي كل مرّة ترتفع فيها الرواتب وتُوزّع المنح من دون ربطٍ بالإنتاجية يرتفع التضخم إلى مستويات جديدة تأكل الزيادات وتغذي الاستهلاك المفرط، لتنشأ دورة جديدة من المطالبات بعد حين، وتتسع فجوة الاختلالات، ويتفاقم عقم الإنتاجية في القطاع العام.