صدرت الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2010 م حاملة مضامين وعناوين عريضة يستدل منها على القنوات التي ستمر عبرها الكتلة المالية الضخمة التي اعتمدت والتي قدرت عند خمسمائة وأربعين مليار ريال كأكبر ميزانية عامة تصدر بتاريخ المملكة العربية السعودية ولكنها بنفس الوقت ليس الأكبر من حيث الإنفاق الفعلي الذي تحقق بالعام المالي المنتهي 2009م حيث بلغ خمسمائة وخمسين مليار ريال وبالرغم من الأوضاع الاقتصادية العالمية الصعبة والتي بدورها أثرت على المحرك الأساسي لموارد الاقتصاد الوطني النفط والذي تراجعت أسعاره بشكل حاد فاق 70 بالمائة ببداية العام 2009 ورغم تأثيره البالغ على حجم الإيرادات التي بلغت خمسمائة وخمسة مليارات ريال بانخفاض وصل إلى 54 بالمائة عن العام 2008 حيث وصلت الإيرادات إلى ألف ومائة مليار ريال إلا أن مستوى الإنفاق لم يتأثر بل زاد عن التقديرات التي وضعت للعام المنتهي بخمسة وسبعين مليار ريال مدعوما باحتياطات كبيرة تم تغطية العجز من خلالها حيث تقلص بمقدار عشرين مليار ريال ليبلغ خمسة وأربعين مليار ريال عن توقعات سابقة قدرته بخمسة وستين مليار ريال.
إلا أن مدلولات الإنفاق استمرت بنفس الوتيرة التي بنيت عليها خطة التنمية الثامنة حيث تنطلق في العام القادم الخطة التاسعة واضعة المواطن وتنمية رأس المال البشري كأولوية رئيسية ويبرز ذلك من خلال حصول قطاع التعليم على نصيب الأسد لأكثر من خمس سنوات حيث يشكل الشباب أكثر من 60 بالمائة من عدد سكان المملكة حيث رصد مبلغ ضخم وصل إلى مائة وسبعة وثلاثين مليار ريال شمل جميع المراحل الدراسية من التعليم العام إلى التقني والفني والعالي بتهيئة المباني والتجهيزات التي تساعد على تطوير مخرجات التعليم بما يتلاءم مع متطلبات سوق العمل خصوصا أن بيان الميزانية تطرق بشكل مباشر إلى مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير التعليم وكذلك إلى برنامج الابتعاث الخارجي بما يكفل الرقي بمستوى المعرفة المطلوبة لتنمية الاقتصاد والحفاظ على مكتسباته كما تهدف للوصول بمستواها إلى آخر ما توصلت له البشرية عالميا في مجالات تدفع بعجلة النمو التي يعتبر رأس المال البشري أساسها ومن خلال الإنفاق على القطاع الصحي والاجتماعي الذي سيبلغ واحد وستين مليار ريال تكتمل الصورة لمدى اهتمام الميزانية بجوانب تعزز من مستوى الإنتاجية والصحة العامة وكذلك تطوير العوامل التي تساعد على توفير البيئة الاجتماعية الصحية من خلال المراكز والأندية الرياضية كعوامل مساعدة على صحة المجتمع ولم يفت الميزانية هذا العام من رفع المخصصات التي تساهم بتراجع معدلات الفقر حيث اعتمدت خطط سيصرف عليها مبالغ طائلة تقدر بثمانية عشر مليار ريال.
هذا بخلاف القطاعات الأخرى التي توفر المناخ الملائم للتنمية كدعم قطاعات النقل باعتمادات فاقت ثلاثة وعشرين مليار ريال والبلديات التي فاق ما خصص لها واحد وعشرين مليار ريال.
غير أن كل هذه الأرقام الكبيرة وحجم الإنفاق الاستثماري بالميزانية الذي سيبلغ مائتين وستين مليار ريال تصب في صالح تنمية دور القطاع الخاص كعنصر فاعل بالناتج الوطني ودعمه بما يكفل تجاوزه لاستمرار آثار الأزمة المالية العالمية فمن المأمول أن يلعب القطاع الخاص دورا رائدا في الحراك الاقتصادي من خلال ما سينفذه من مشاريع معتمدة وتوفير الدعم والتمويل له حتى يساعد في استيعاب الطاقات البشرية المؤهلة للعمل والتي تخرجها الجامعات والمعاهد والكليات المتخصصة فالدولة رعاها الله تعول على القطاع الخاص الكثير حتى يسهم بتقليل الاعتماد على النفط بموارد الدول حيث شكل 86 بالمائة للعام المنتهي غير أن الاستمرار بطرح المشاريع سيعزز من ملاءمة القطاع الخاص المالية وكذلك الخبرة وتتهيأ الفرص له لكي يرفع من طاقاته الإنتاجية مما سيسهم برفع قاعدة العرض من الخدمات والسلع التي يحتاجها الاقتصاد وبالتالي فإن إمكانية تدفق الاستثمارات على المدن الصناعية والاقتصادية التي يتم توسعتها وبناء الحديث منها أصبح مسألة وقت لأن الثقة بالاقتصاد السعودي الأكبر عربياً تتعزز منذ سنوات طويلة وتأتي الأزمة العالمية ليبرهن فيها على مدى قوته وحصافة التفكير الاستراتيجي لكي ينتقل بشكل ممنهج إلى موقع التوازن المطلوب بحجم الإيرادات البترولية وغيرها بالنتاج الوطني وبإيرادات الدولة ومن الواضح أن ذلك ظهر جليا بمستوى مساهمته بالناتج الوطني الذي وصل إلى قرابة 48 بالمائة من أصل أكثر من ألف وثلاثمائة وثمانين مليار ريال أي بما يقارب ستمائة وخمسة وثمانين مليار ريال.
إن توجهات الميزانية تعكس حقيقة التوجه نحو رفع دور الاقتصاد الجزئي وتعزيزه وأن توفر السبل لكي يمارس القطاع الخاص دوره المطلوب والمستهدف بالسنوات القادمة حيث تحتل المملكة مكانة عالمية مرموقة في مجال التنافسية الدولية على جذب الاستثمارات ويأتي توقيع شركة معادن مع إحدى أكبر شركات التعدين العالمية الكوا لمشروع إنتاج وصهر الألمنيوم بحجم استثمارات سيبلغ أكثر من أربعين مليارا دليلاً على ذلك وتقوم الدولة بتهيئة المنطقة الصناعية برأس الزور التي تم تكليف الهيئة الملكية للجبيل وينبع بالإشراف على تشييدها لخبرتها الكبيرة بهذا المجال مع بناء الميناء المطلوب وكذلك السكك الحديدية لنقل المواد الخام للمشروع لتكون بذلك منطقة تعدينية تضاف إلى المناطق التي تركز على الصناعات البتروكيماوية مما يعني أن آفاق واسعة تفتح أمام القطاع الخاص لضخ الاستثمارات مع تكفل الدولة بتهيئة العنصر البشري والخدمات المطلوبة من نقل وغيرها من البنى التحتية وسيكون السباق محموما بين الشركات والمؤسسات المحلية مع المستثمرين من الخارج.
إن فرصة القطاع الخاص اليوم ليست مسبوقة من حيث التوسع بالنشاطات ورفع الكفاءة والمقدرة الإنتاجية بيسر بسبب توفر العامل الأبرز وهو التوسع بالإنفاق الحكومي المستمر دون أن يكون لاعتبارات التقلب بأسعار النفط دور بالتأثير لأن المطلوب اليوم هو النظر ببعد العلاقة مع الاقتصاد العالمي بعد انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية من حيث استغلال الفرص المتاحة لتحقيق موارد تشغيلية كبيرة تتطلب توسيع قاعد الاستثمارات والشراكات والاندماجات والاستحواذات في الداخل والخارج لكي تتشكل كيانات اقتصادية تأخذ موقعاً بارزاً عالمياً خصوصا أن المملكة أصبحت بأسلوب تعاطيها مع الأزمة بسياساتها التوسعية المالية والنقدية محط أنظار الكثير من المستثمرين مع توفر الموقع الجغرافي والأمن والأمان بفضل الله وكذلك الخامات المتعددة التي تساهم بتقليل التكلفة الإنتاجية وقدرتها على المنافسة إقليميا وعالميا فقلما تتوفر عوامل صحية لأي استثمار أو نشاط اقتصادي كالتي توفرها المملكة بقيادة حكيمة من لدن خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني حفظهم الله حيث المواطن بمختلف فئاته مركز اهتمامهم الأول وهذا ما تبرزه الميزانية غير المسبوقة بكل المقاييس فهي تحمل معها الخير في مملكة الخير.