في مقالي السابق، تحدثت عن أهمية فصل نشاط المصارف الاستثمارية عن نشاط المصارف التجارية في المملكة (كما نادى بذلك كل من جلاس وستيجال قبل أكثر من 70 عاماً) بحكم أن المصارف الاستثمارية تسعى بطبيعتها لأخذ مخاطرة عالية في سبيل تحقيق أعلى عائد ممكن، في حين (من المفترض) أن تسعى المصارف التجارية لأخذ مخاطر منخفضة في سبيل تحقيق عائد مقبول لكونها مؤتمنة على ودائع العملاء الذين يحق لهم سحبها في أي وقت ولكون هذه الودائع تشكل أهم مصادر تمويل الأصول لديها وهو ما يسهم في تعظيم العائد على حقوق المساهمين.
بالنظر إلى الوضع الحالي في مصارفنا التجارية بعد مرور نحو خمسة أعوام على تطبيق نظام السوق المالية، نجد أن المصارف التجارية لا تزال تقوم بنشاطات استثمارية ذات مخاطر مرتفعة، حيث على - سبيل المثال - يلزمها النظام بإدارة الحسابات الاستثمارية الخاصة بالمصارف الاستثمارية ويلزمها النظام أيضاً بمنح التسهيلات بضمان الأوراق المالية ويلزمها النظام أيضاً بتعهد التغطية على الاكتتابات العامة الأولية وإصدارات أسهم حقوق الأولوية، وهي جميعها نشاطات ذات مخاطر مرتفعة جداً ينبغي أن تقتصر على المصارف الاستثمارية فقط لا غير حتى نضمن تقليل المخاطر إلى أدنى حد ممكن على المصارف التجارية.
في السياق نفسه، نجد أن المصارف التجارية تقوم أيضاً بالمضاربة في الأوراق المالية وفي العملات الأجنبية وفي السلع وفي صناديق التحوط وفي المشتقات المالية إلى أن بلغ إجمالي المبالغ الاسمية لهذه المشتقات في مصارفنا التجارية رقماً يفوق إجمالي أصولها وهو رقم يحتاج إلى وقفة وتأمل. قد لا نعلم إن كانت هناك ضوابط على مثل هذه المضاربات أم لا، إلا أن ما نعلمه جيداً هو أن مثل هذه المضاربات هي التي ورطت أكبر المصارف التجارية العالمية في أكبر أزمة مالية تتعرض لها منذ القرن الماضي (إن لم تكن أكبر أزمة مالية تتعرض لها منذ إنشائها) والسبب في ذلك هو الطمع ولا شيء غير الطمع!!!!
اللافت هنا أن الدول الصناعية الكبرى (مثل الولايات المتحدة وبريطانيا) بدأت الآن تطالب بتجزئة المصارف التجارية إلى وحدات ذات مخاطر منخفضة تتضمن ودائع وقروض العملاء ووحدات ذات مخاطر عالية تتضمن الاستثمارات (الأصول السامة) وهو ما يعني العودة إلى أساسيات قانون «جلاس ستيجال» من خلال فصل النشاط المصرفي عن النشاط الاستثماري، في حين نجد أن الدول الناشئة (الصين مثلاُ) لا تزال تشدد وبقوة على هذا الفصل وهو ما جنب مصارفها التجارية تأثيرات الأزمة المالية العالمية إن لم تكن قد استفادت منها.
ويبقى التساؤل مطروحاً: ألسنا نحن أولى بتطبيق مثل هذا الفصل؟ ومن المسؤول فيما لو تعرضت مصارفنا التجارية (لا قدر الله) لأي هزة مالية ناتجة عن عمليات استثمار ذات مخاطر عالية؟