نسمع كثيراً عن التنمية المستدامة باعتبارها هدفاً عالميا تبنته الأمم المتحدة ومؤسساتها وخاصة البنك الدولي، والأونكتاد وغيرها، وتبنته رؤية قطر الوطنية 2030 عندما جعلت هدفها الأساسي تحويل قطر في عام 2030 إلى دولة متقدمة قادرة على تحقيق التنمية المستدامة. وقد تم تعريف التنمية المستدامة في أكثرمن مرجع على أنها "عملية تطوير الأرض والمدن والمجتمعات والأعمال بشرط أن تلبي احتياجات الحاضر بدون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها. وهي تسعى إلى تحسين ظروف معيشة جميع الناس دون زيادة استخدام الموارد الطبيعية إلى ما يتجاوز قدرة البيئة على التحمل، أي تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، مع حفظ الموارد الطبيعية والبيئية. وقد أدرك المخططون الإنمائيون في قطر عند وضع الرؤية الوطنية أن دونها تحديات كثير منها: ضرورة التحديث مع المحافظة على التقاليد، والموازنة بين احتياجات الجيل الحالي واحتياجات الأجيال القادمة، وحجم ونوعية العمالة الوافدة المستهدفة، والتوسع غير المنضبط، وحماية البيئة وتنميتها.
وقد مضى على اعتماد رؤية قطر الوطنية قرابة أربع سنوات منذ عام 2008، وتم خلال هذه الفترة إعداد أول خطة استراتيجية للفترة 2011-2016، ضمن سلسلة خطط استراتيجية قادمة لتحقيق الأهداف الموضوعة للرؤية.وفي تقديري الشخصي أن التحديات أمام تحقيق التنمية المستدامة بشقها الاقتصادي لا زالت قائمة وبقوة على أكثر من صعيد، وبوجه خاص في قضايا النوسع الاقتصادي غير المنضبط، والقدرة على الحفاظ على الموارد الطبيعية بما يطيل أمد استخدامها، وبما يحفظ حقوق الأجيال القادمة فيها، وحجم ونوعية العمالة الأجنبية المستهدفة.
إن ظروف قطر تختلف كثيراً عن ظروف دول أخرى لديها أعداد كبيرة من السكان سواء كانت نامية مثل مصر والسودان أم من الدول الصاعدة مثل ماليزيا وتركيا والهند، ففي مثل هذه الدول تبرز الحاجة المستمرة إلى التنمية المستدامة التي تخلق فرص عمل للأعداد الكبيرة المتدفقة إلى سوق العمل سنوياً، حتى لو كان ذلك على حساب أمور أخرى كالتلوث البيئي مثلاً. كما أن لدى كثير من هذه الدول الامتداد والتنوع الجغرافي الكبير بما يساعد على حدوث التنمية المستدامة المطلوبة، ولديها دافع آخر يتمثل في الرغبة في رفع متوسط دخل الفرد من مستوياته المنخفضة. أما في قطر، فإن الوضع جد مختلف للأسباب التي يعرفها الجميع وأهمها ارتفاع متوسط دخل الفرد إلى المركز الأول عالميا، وندرة العنصر السكاني والاعتماد في إقامة المشروعات وكافة أنواع الأنشطة على جلب الأيدي العاملة الرخيصة نسبياً من الخارج مع كل ما يترتب على ذلك من أعباء نشير إليها على النحو التالي:
1- زيادة الخلل في التركيبة السكانية سنة بعد أخرى حيث يتضاعف عدد غير القطريين كل بضعة سنوات بحيث بات عددهم اليوم يزيد عن مليون ونصف نسمة.
2- أن الزيادة الكبيرة في عدد السكان تستوجب زيادة مضطردة في الإنفاق على البني التحتية من مدارس ومستشفيات وعيادات وطرق وكهرباء وماء وصرف صحي، ومناطق صناعية، وموانئ ومطارات، كما يستوجب زيادة في أعداد العاملين بالقطاع الحكومي لتأمين الخدمات المختلفة للسكان، وكل ذلك يشكل استنزاف كبير للموارد.
3- أن التوسع غير المنضب وغير المحسوب يترتب عليه استنزاف ثروة البلاد الرئيسية من الغاز في زمن قصير نسبياً، حيث أنه وفقاً لمعدلات الإنتاج الراهنة من الغاز فإن الاحتياطيات المتاحة منه باتت تكفي لمدة مائة عام، وسيكون من شأن زيادة معدلات الإنتاج سواء لأغراض التسييل أو التحويل إلى وقود سائل أو لاستخدامه في إنتاج كميات متزايدة من البتروكيماويات والأسمدة الكيماوية والحديد أو لإنتاج الكهرباء والماء، أن يتناقص عمر الاحتياطيات بسرعة، وهو ما يشكل أحد التحديات المهمة التي حذرت منها رؤية قطر الوطنية 2030.
4- أن زيادة الإنتاج من المصانع ومحطات الطاقة على اختلاف أنواعها يعمل على زيادة نسبة التلوث الجوي وفي مياه البحر، ومهما قيل عن إجراءات عالية يتم اتخاذها عبر وسائل تقنية متطورة لتلافي حدوث ذلك، فإن هذه الاحتياطات لن تحول دون زيادة نسبة التلوث البيئي، وما ينجم عنه من أمراض.
5- المعروف أن مساحة قطر الكلية تقل عن 12 ألف كيلو متر مربع، وقد توسعت وتمددت المناطق العمرانية في العشر سنوات الأخيرة بحيث اتصلت المدن بما حولها من القرى والمدن الأخرى ومن ينطلق في رحلة من الدوحة إلى الرويس سيكتشف كيف أن المساكن باتت تمتد على طول الطريق، وكان ذلك على حساب المناطق الزراعية والطبيعية.كما أن أمسيعيد باتت مكتظة بالمصانع وحدث شيئ مماثل في رأس لفان. وإذا تصورنا أن معدل النمو السكاني سيستمر بنسبة تزيد عن 5% سنويا، فإنه بعد عقد من الزمان ستكون الصورة أكثر ازدحاماً وتكدسا وتلوثاً مما هي عليه اليوم.
6- أن قطر صاحبة أعلى متوسط دخل في العالم يزيد هذا العام عن مائة ألف دولار ومن ثم فإن الحاجة للتوسع الاقتصادي من أجل زيادة الدخل غير مطلوبة في الحالة القطرية. ويمكن حسابياً زيادة متوسط دخل الفرد عن طريق خفض عدد السكان بالاستغناء عن العمالة الزائدة التي جاءت لإقامة المشروعات في السنوات الخمس السابقة.
والخلاصة أن قطر بحاجة إلى تنمية مستدامة تهتم بالنوع بدلاً من الكم، وتركز على ما يعرف بالصناعات المعرفية بدلاً من التركيز على الصناعات القائمة على استغلال الغاز الطبيعي، بحيث تستطيع مواجهة التحديات وتحفظ للأجيال القادمة فرصة الحياة الكريمة بأقل قدر من المشاكل، وقد يكون للحديث بقية عن هذا الموضوع في مقال آخر.