الإفلاس الرحيم

19/05/2012 5
محمد سليمان يوسف

وسط حالة من الذعر يهرع اليونانيون هذه الأيام بكثافة نحو البنوك لسحب أموالهم ، أما السبب فهو خوفهم من إفلاس دولتهم على خلفية أزمة الديون الوطنية التي تفاقمت وازدادت حدة بعد انتخابات 6 مايو 2012 .. هذه الانتخابات التي لم تأت بمناهضي التقشف فحسب بل وكشفت عجز الساسة اليونانيين وعدم أهليتهم لتشكيل حكومة سياسية قادرة على مواجهة التزامات الدولة تجاه شركائها الأوروبيين ، ويبدو أن سباقا محموما يدور الآن بين توجه المواطنين لسحب أموالهم السائلة من البنوك ، وبين البنك المركزي اليوناني الذي يحاول بأي وسيلة ممكنة توفير السيولة النقدية قبل أن تقع الفأس في الرأس .

مما لا شك فيه أن حجب الإفلاس عن اليونان أصبح اليوم أصعب من أي وقت مضى ، وبالتأكيد هناك من تردد أو تراخى في حل الأزمة اليونانية عندما كانت الحلول ممكنة ، أما اليوم ، وبعد أن أصبح الإفلاس يسبق الحل بخطوة أو أكثر ، أصبح حل الأزمة صعبا إن لم نقل مستحيلا ، وما كان يصلح في الأمس لم يعد يصلح اليوم خاصة في ظل الخراب الذي حل بخزائن البنوك ، واهتزاز ثقة المواطن اليوناني بجدوى أي حل يفرض عليه المزيد من التقشف وشد الحزام .

بتاريخ 18- 19 مايو 2012 يعقد زعماء دول مجموعة الثماني الصناعية الكبرى اجتماع قمة لهم في الولايات المتحدة الأمريكية ، وأهم سؤال فيه هو " كيف يمكن إنقاذ اليونان من الإفلاس ؟ " ، أما الإجابة على هذا السؤال فلن تكون سهلة ، وقد لا نراها ، فمن تردد في حل الأزمة وهي "جنين صغير" سيتردد مرة أخرى في حلها وهي "وحش مخيف" ، وكما ترددت أوروبا , وكما ترددت مجموعة العشرين سابقا في حل الأزمة ستتردد مجموعة الثماني اليوم أيضا ، إما لأن الأزمة أكبر من إمكانياتها أو لأنها غير مقتنعة بمردود أي حل يطرح على الطاولة ، ومن هذا المنطلق أخذ كل طرف في مجموعة الثمانية "يغني على ليلاه" ، فالرئيس الأمريكي باراك أوباما الخائف من أن تضر أزمتي اليونان ومنطقة اليورو باقتصاده ومن ثم بفرص إعادة انتخابه اقترح "تحفيز النمو" ، في حين دعا ديفيد كاميرون الخائف على شعبيته إلى "خلق فرص العمل" أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فمتمسكة بمعاهدة "ضبط الميزانية" ولا ترى غيرها بديلا ، ليشكل بعد ذلك موقف الرئيس الروسي فلادمير بوتين حالة فريدة من السخرية خاصة عندما أكد أنه لن يحضر القمة لأنه سيكون مشغولا بتشكيل الحكومة في الوقت الذي ينيب عنه رئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف !!!.. ويبدو أن دور زعماء اليابان وإيطاليا وفرنسا وجميعهم يحضرون هذه القمة لأول مرة بالإضافة إلى كندا سيكونون مجرد كومبارس ، فهل يجب أن نتوقع من هذه القمة حلا لأزمة أوروبا ؟!.. ، أنا شخصيا أجزم أننا لن نرى حلا ولا حتى مشروع حل يمكن البناء عليه .

جان كلود تريشيه الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي اكتشف متأخرا أن قمة الثمانية لن تأتي بحل – والرجل برأي محق – فقام هو باقتراح حل ، وحل تريشيه يقوم على مصطلح يعرف بالأدب الطبي " القتل الرحيم" ولأن ترشيه مهندس تعدين في الأصل ومصطلحاته لا تستقيم مع مصطلحات الطب فقد استوحى ما يمكنني شخصيا تسميته " الإفلاس الرحيم " وطرح حلا مفاده " بوسع أوروبا أن تعزز وحدتها النقدية من خلال منح الساسة الأوروبيين الصلاحية لإعلان إفلاس دولة ما وتولي مسؤولية سياستها المالية " ، طبعا اقتراح تريشيه جريء جدا ، وأعتقد أنه تجرأ على طرح السؤال لأن اليونان ليست عضوا في مجموعة الثمانية وإلا لكان اقتراحه سببا في تفجير القمة برمتها ، لأن هذا "الاقتراح الحل" لا يمس بالسيادة الوطنية اليونانية فحسب بل يضع اليونان كدولة تحت الوصاية الأوروبية الكاملة ، بل ويمنح الاتحاد الأوروبي إدارة شؤونها المالية ولا أعتقد أن يونانيا واحدا سيقبل بذلك خاصة أن الأدبيات السياسية والقانونية للاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو لا تعطي هذا الحق لأي من الهيئات والمؤسسات الأوروبية وأعتقد مرجحا أن أي تنازل من السلطات اليونانية عن أي حق من حقوقها في إدارة أموال الدولة لصالح أي طرف خارجي حتى لو كان الإتحاد الأوروبي يحتاج إلى موافقة الشعب اليوناني إما مباشرة عن طريق الاستفتاء أو عن طريق موافقة مجلس النواب وكلنا يعرف كيف طرد الشعب اليوناني في انتخاباته الأخيرة قبل أيام المؤيدين للتقشف وانتخب المناهضين له .

أعتقد أن "اقتراح حل " تريشيه الذي أطلقت عليه أنفا اسم "الإفلاس الرحيم" ، لن يجد صدى لا في قمة الثمانية ولا في الاتحاد الأوروبي وإن وجد فإن سيصطدم بمواجهة عنيفة من اليونانيين الذين سيفضلون الدراخما والعيش بعيدا عن منطقة اليورو على أن يعيشوا تحت نير استعمار يفرض عليهم سياسات مالية تقشفية هم يرفضونها أصلا من ساستهم فكيف سيقبلونها من الغرباء ؟!.