كان موضوع تأجيل إصدار الموازنة العامة للدولة لمدة شهرين من الموضوعات التي تكرر ذكرها في الآونة الأخيرة في أكثر من مناسبة على لسان الجهات المعنية؛ وخاصة معالي رئيس مجلس الوزراء وسعادة وزير الاقتصاد المالية.
وقد اقترن الحديث عن الموازنة القادمة بأمرين أولهما أنها ستأتي هذه المرة وفق منهج مختلف عن طريقة عرضها في السنوات السابقة، وأما ثانيهما فهو أنها لن تقل عن موازنة السنة السابقة، بما يعني أنها ستكون أكبر موازنة في تاريخ قطر.
ولأن الموازنة العامة من الموضوعات الأساسية التي تهم الاقتصاد القطري وتؤثر في أنشطة الأعمال، فإن موضوع التأجيل كان حدثاً استثنائياً يستحق أن نقف عنده بالشرح والتحليل.
بداية أشير إلى أن موضوع التأجيل يأتي في وقت ترتفع فيه أسعار النفط إلى مستويات قياسية لم تشهدها منذ أربع سنوات، حيث يتجاوز سعر برميل النفط 120 دولاراً، وهو مستوى قياسي وتاريخي إذا ما استثنينا الفترة القصيرة التي تجاوز فيها السعر مستوى 145 ريال عام 2008. كما أنه يأتي في وقت بلغت فيه صادارات الغاز المسال ذروتها، وحققت فيه الموازنة في الأعوام الماضية فوائض مالية قياسية بشهادة صندوق النقد الدولي.
ويترتب على ما تقدم أن التأخير في اعتماد وإصدار الموازنة حتى الأول من يونيو القادم لا ينجم عن صعوبات في توفير الإيرادات اللازمة لمواجهة النفقات العامة، وإنما هو- كما ذكر كبار المسؤولين- عائد إلى أمور تنظيمية استدعتها ضرورات التطوير المستمر،والإلتزام برؤية وطنية للدولة لعام 2030، وخطة استراتيجية أولى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بدأت في عام 2011 وتنتهي عام 2016.
لقد كان المنهج التقليدي في عرض الموازنة العامة منذ الاستقلال يتلخص في الإعلان عن الإيرادات العامة المتوقعة للدولة المحسوب على أساس سعر تقديري يقل عن السعر الفعلي السائد فعلياً في الأسواق العالمية.
وكانت النفقات العامة توزع على أربعة أبواب رئيسية هي الرواتب والأجور وما في حكمها، والمصروفات الجارية اللازمة لتسيير عجلة الإدارات الحكومية وتلبية احتياجاتها من سلع وخدمات، ثم بند المصروفات الرأسمالية الثانوية كمشتريات الحكومة من السيارات والمعدات والأجهزة، وبند المشروعات الرئيسية لإقامة محطات الكهرباء والماء والمدارس والطرق والصرف الصحي وما شابه.
وخلال العقد الأخير تغيرت طريقة عرض بنود الموازنة العامة بحيث باتت تركز على الاعتمادات المقررة لقطاعات رئيسية كالتعليم والصحة والكهرباء واستملاك الأراضي، والبنية التحتية. ولم تكن تلك البيانات واضحة بالقدر الكافي كي تتم مقارنتها بالبنود الأربعة الرئيسية القديمة، أي بما إذا كانت مخصصات التعليم تشمل الإنفاق على البنية التحتية لهذا القطاع من مدارس وجامعات فقط، أم أنها تغطي كافة نفقات التعليم بما في ذلك من رواتب وأجور ومصروفات جارية؟وينطبق نفس التساؤل على بقية القطاعات من صحة وكهرباء وطرق وصرف صحي وخلافه.
وبعد أن تم وضع رؤية قطر لعام 2030، وما تبلور عنها من ضرورة تحقيق أهداف الرؤية من خلال خطط استراتيجية تنموية، كان أولها الخطة الأولى التي تغطي الفترة 2011-2016، والتي تم تدشينها في أبريل من العام الماضي، أقول بعد هذا التغير الاستراتيجي الذي حدث في توجه الدولة، بات لزاماً أن يكون إعداد الموازنة العامة مختلفاً ومتوافقاً مع تلك التغيرات، فالموازنة العامة ما هي إلا أداة رئيسية من أدوات السياسة المالية للدولة، ومن ثم يجب أن تكون أكثر تطوراً بما يناسب التطور المذهل الذي حققته البلاد في العقد الأخير.
ومن هنا أتصور أن يكون هناك تغير جوهري في طريقة عرض النفقات العامة للدولة بحيث ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأهداف المتوقع تحقيقها في سنة الخطة.
وبمعنى آخر أنه سيتم الإفصاح عن النفقات المخصصة لقطاع التعليم بالكامل ، مع تحديد الأهداف المتوخاه من هذا الحجم من الإنفاق كإنشاء عدد كذا مدرسة ثانوية للبنين ومثلها للبنات من مختلف المراحل وفي مختلف المناطق، وأن ذلك سيتزامن مع تحويل كذا مدرسة إلى مدرسة مستقلة، وتخريج عدد كذا طالب وطالبة من المرحلة الثانوية. وغير ذلك من أهداف تربوية وتعليمية، بحيث يتم محاسبة الجهات التنفيذية في نهاية العام على ما حققته من نتائج وليس فقط على ما أنفته من أموال.
وينطبق ما قلته على بقية القطاعات بحيث تكون هناك متابعة دقيقة وأمينة لأهداف الخطة الاستراتيجية.
ويتبقى بعد ذلك الحديث عن حجم الموازنة المنتظر، وهو ما سأتناوله في مقال قادم بحول الله.