جاء تقرير جهاز الإحصاء عن مستويات الأسعار في شهر يناير مفاجئاً من حيث الشكل والمضمون، فمن حيث الشكل تضمن التقرير الذي صدر في الأسبوع الماضي خطأ جوهرياً حيث تم الخلط فيه بين معدل التضخم والرقم القياسي للأسعار. فقد ذكر التقرير على موقعه "أن مؤشر التضخم السنوي قد سجل ارتفاعا بنسبة 1.2% مقارنة بشهر يناير 2011". وهذا التعبير غير صحيح لأن المعدل السنوي للتضخم قد انخفض ولم يرتفع. فالمعروف أن معدل التضخم هو التغير الذي يطرأ على الرقم القياسي للأسعار في سنة، وبالرجوع إلى إعلانات الجهاز عن التضخم في الشهور السابقة يتبين لنا أنه كان في حالة تراجع، حيث كان على التوالي: 2.5% في أكتوبر، 2.2% في نوفمبر، 2.1% في ديسمبر، ثم 1.2% في يناير. أما الذي ارتفع في سنة فهو الرقم القياسي العام للأسعار، الذي ارتفع من 108.3 في يناير 2011، إلى 109.6 في يناير 2012.
الجدير بالذكر أن الرقم القياسي العام للأسعار في أي شهر هو متوسط مرجح لمستويات سلة أسعار السلع والخدمات في ذلك الشهر منسوباً إلى المتوسط المناظر في سنة الأساس وفق صيغة لاسبير. أما معدل التضخم فهو كما أشرنا مقدار التغير في الرقم القياسي العام في شهر ما مقارنة بنظيره في السنة السابقة مقسوماً على رقم السنة السابقة، ثم مقارنة المعدل الناتج بنظيره للشهر السابق. وهكذا نفهم كيف أن الرقم القياسي لشهر يناير جاء أعلى من نظيره لشهر يناير 2011، ولكن معدل التضخم لشهر يناير 2012 كان في حالة تراجع عن شهر ديسمبر، فضلاً عن نوفمبر وأكتوبر أيضاً.
وعلى ضوء هذه الملاحظة، فإنني أوجه نداء إلى جهاز الإحصاء بأن يكملوا عملهم الرائع في إصدار بيانات شهرية عن الأسعار في قطر، بالاهتمام أكثر بصياغة التقارير التي تشرح للجمهور مدلولات تلك الأرقام ومفاهيمها. وأحسب أن الجهاز حريص على فعل ذلك؛ وخاصة في ظل ما ينفذه حاليا من استطلاع لرأي مستخدمي البيانات عن مدى جودة الإحصاءات التي يصدرها.
أما مصدر المفاجأة من حيث المضمون فهو عودة معدل التضخم إلى التراجع إلى أقل مستوى له منذ عام كامل. فالمعروف أنه بعد أن غادر المعدل المنطقة السالبة في ديسمبر 2010، وتحول إلى رقم موجب منذ يناير 2011، فإن هذا المعدل قد ظل دون مستوى 1.8% في النصف الأول من ذلك العام. ثم تسارع نموه في النصف الثاني من العام حتى بلغ 2.5% في شهر أكتوبر، وقد حفزني ذلك في بداية شهر ديسمبر الماضي إلى كتابة مقال نبهت فيه إلى احتمال خروج المعدل عن السيطرة إذا ما استمر تسارعه بنفس الوتيرة.
ثم جاء تقرير صندوق النقد الدولي عن الاقتصاد القطري بعد ذلك وتحديداً يوم 18 ديسمبر ليتوقع ارتفاع معدل التضخم في عام 2012 إلى مستوى 4%، وذلك بالطبع استناداً إلى معلومات توفرها أجهزة الحكومة للصندوق. وكان كل ذلك مفهوماً ومقبولاً باعتبار أن الاقتصاد القطري سيحقق نمواً-وفق توقعات الصندوق والحكومة- بمعدل 6% بالأسعار الحقيقية، و 4% بالأسعار الجارية في عام 2012، وطالما أن عرض النقد الواسع سينمو هذا العام بمعدل 20.8% وأن التسهيلات الائتمانية الإجمالية ستنمو بنسبة 13.2%، سيأتي معظمها من التسهيلات المقدمة للقطاع الخاص التي ستنمو بنسبة 15.9%، وفقاً لتوقعات الصندوق.
وهكذا بدت عودة التضخم للانخفاض ثانية إلى مستوى 1.2% مفاجئة، وإن كانت بوادر ذلك الانخفاض قد ظهرت على مؤشرات أخرى منذ بداية العام. وأشير هنا إلى انخفاض المعدل إلى 2.1% في ديسمبر، وتراجع تداولات البورصة ومؤشرها العام في شهر يناير وفبراير -وهي الفترة التي تشهد عادة ذروة النشاط-، وتباطؤ معدل نمو المجاميع المصرفية وخاصة ما يتعلق منها بالقطاع الخاص، وفق ما أظهرته بيانات الميزانية المجمعة للبنوك لشهر ديسمبر، حيث انخفضت القروض والتسهيلات الممنوحة للقطاع الخاص في ديسمبر بنحو 0.3 مليار ريال، وزادت ودائع القطاع الخاص عما كانت عليه في نوفمبر بمقدار 0.1 مليار ريال فقط. وأسارع إلى القول أن تراجع الأسعار مفيد وإيجابي للمستهلكين، ولكن انخفاضه دون 2.5% ليس كذلك بالنسبة للاقتصاد حيث يصاحبه تراجع فرص التشغيل وارتفاع معدل البطالة.
واستناداً إلى هذا التحليل، فإن رسالتي الثانية هي لصانعي السياسات المالية والنقدية في وزارة الاقتصاد والمالية ومصرف قطر المركزي، ومفادها أن السياسات المالية والنقدية قد نجحت في ضبط معدل التضخم في عام 2011 إلى حدود 2.1% حتى نهاية العام، ولكنها باتت تدفع المعدل إلى مزيد من الانخفاض دون ذلك وهو أمر غير صحي ويؤثر سلباً على مستويات نشاط القطاع الخاص بوجه عام وعلى أداء البورصة أيضا. وعليه أنصح بالتخفيف من الجرعة الزائدة لتلك السياسات، وبوجه خاص لجهة إصدار الأذونات والسندات الحكومية. كما يمكن النظر في خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي عن مستواها المرتفع حالياً البالغ 4.75%، وهي النسبة الوحيدة المتبقية دون تعديل منذ عام 2008.