على الرغم من تحسن أوضاع سوق العمل في الولايات المتحدة، وزيادة أعداد العاملين باضطراد خلال الأشهر الماضية، حيث بلغ عدد الوظائف الجديدة هناك، خلال شهر يناير الماضي، 240 ألف وظيفة وبذلك فإن معدل البطالة انخفض إلى 8.3 في المائة، فإن حال عدم الارتياح ما زالت تخيم على الأوضاع الاقتصادية في مختلف البلدان الصناعية الرئيسية، ولذلك فإن السلطات النقدية ظلت تحافظ على سعر خصم منخفض حيث يوازي الصفر في الولايات المتحدة، ولا يزيد على الواحد في المائة في منطقة اليورو. لكن هل نفعت هذه السياسات النقدية في تحفيز النشاط الاقتصادي في أي من هذه البلدان، ولو بشكل معتدل؟ ربما قليلاً، بيد أن المعضلات الأساسية تظل قائمة وحاضرة.
ففي بلدان الاتحاد الأوروبي ما زالت مسألة الديون السيادية تقلق السلطات الاقتصادية والسياسية، واستمرت عملية تعويم اليونان حاضرة، وإن تمكنت الحكومة اليونانية بأحزابها المؤتلفة من التوصل إلى برامج تقشفية واسعة النطاق من أجل الانتهاء إلى اتفاقات مع الجهات الدائنة مثل الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي. هذه البرامج أدت إلى خروج مئات الآلاف من العمال والموظفين في تظاهرات صاخبة أدت إلى اضطرابات ومصادمات مع قوى الأمن، هؤلاء العاملون يخشون على تراجع مستويات المعيشة لأسرهم وتدني قدراتهم الاستهلاكية.
لا يبدو أن لدى الحكومات التي تواجه استحقاقات ديون سيادية مرتفعة وتعادل أكثر من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لبلدانها أي وسائل لتفادي برامج التقشف، مما يعني أن عليها أن تقنع شعوبها بضرورة الصبر وتحمل هذه الإجراءات لزمن طويل.
ولا بد من التذكير بأن هذه الأوضاع كانت نتاج التوسع في الإنفاق العام وتحقيق عجوزات في موازنات الحكومات، خلال السنوات المنصرمة، مما أدى إلى زيادة الاستدانة من النظام المصرفي المحلي والعالمي.
وكما يبدو من عمليات الإنفاق العام، فإن بنود التحملات الاجتماعية، مثل الضمان الصحي والتعليم ومعاشات المتقاعدين ناهيك عن الرواتب والأجور، كانت من أهم أسباب الزيادات في تكاليف البرامج الحكومية.
وهنا يجب الإشارة إلى أن البنوك والمؤسسات المالية ساهمت في زيادة هذه الديون، نظراً لعدم التدقيق في إمكانيات أداء الحكومات لالتزاماتها في الآجال المحددة في عقود الاقتراض، وكذلك فإن سلطات الاتحاد الأوروبي لم تكن تتابع عمليات الاستدانة والتأكد من مستويات العجز في الموازنات ومدى الالتزام بشروط معاهدة ماسترخت التي حددت 3 في المائة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لأي بلد كحد أقصى للعجز.
إن عمليات التقشف في البلدان الأوروبية وما ينتج عن ذلك من تراجع الاستهلاك لا بد أن تؤدي إلى تقلص واردات بلدان الاتحاد الأوروبي من البلدان الصناعية الأخرى، خصوصاً البلدان الآسيوية وعلى رأسها الصين، مما يعني انخفاض مستوى التجارة الدولية عالمياً وإمكانيات تراجع معدلات النمو في الصين والهند وكوريا الجنوبية وغيرها من بلدان آسيوية وكذلك بلدان مثل البرازيل في أميركا اللاتينية. ولا شك أن الركود الجاري في أوروبا سينعكس على بلدان عديدة بما فيها البلدان المصدرة للنفط، حيث ستكون هناك تأثيرات على سوق النفط في الأجل المتوسط، عندما تبدأ البلدان الناشئة تواجه تراجع أدائها الاقتصادي، ويمثل الطلب على النفط فيها أهم أسباب تماسك أسعار النفط في الوقت الحاضر. إذاً، فإن أوضاع الاقتصاد العالمي تتطلب معالجات هيكلية قد تؤدي إلى الانتعاش لكن بعد حين.