الميزانية السعودية والاقتصاد قبل أن تطير الطيور بأرزاقها

24/01/2012 5
عبد الحميد العمري

جاءت أرقام الميزانية الحكومية السعودية الأخيرة 2011 قياسية وفق التوقعات التي استندت إلى متوسط مرتفع لسعر النفط فوق 108 دولارات أمريكية للبرميل (برميل النفط العربي الخفيف) ، ولتكون الميزانية المالية الأكبر في تاريخ المالية العامة ببلوغ إجمالي إيراداتها أكثر من 1.1 تريليون ريال، وتجاوز نفقاتها الفعلية خلال العام المالي سقف 804 مليارات ريال، أسفرت عن تحقق ثانٍ أعلى فائض إيجابي في ميزان المالية العامة تجاوز 304 مليارات ريال (17.1 بالمئة من الاقتصاد الكلي).

بالطبع هذا أفضى إلى تحسن القدرة للمالية العامة لتطفئ مزيداً من الدين العام ليستقر مع نهاية العام المالي عند 135.5 مليار ريال (6.3 بالمئة من الاقتصاد الكلي)، كما ساعد على تعزيز قدرة الإنفاق على احتياجات قطاع الإسكان في السعودية عبر استقطاع 250 مليار ريال من ذلك الفائض القياسي، وتوجيهه إلى دعم الإسكان تحت إشراف وزارته الجديدة التي أنشئت في مطلع العام نفسه، وتحويل المتبقي من الفائض المالي إلى حساب الاحتياطات المالية للحكومة ليتجاوز بذلك سقف تريليوني ريال.

أتت وتأتي دائماً أرقام الميزانية الحكومية طوال عقد من الزمن مضى، وهي تحمل علامات إيجابية جداً تحققت بفضل الارتفاعات التي حافظت عليها أسعار النفط، غير أنها في الوقت ذاته لا تزال تحمل أيضاً فوق عاتقها مسؤولية تحقيق تطلعات وطموحات وأهداف تنموية ثقيلة الأوزان، اجتمعت تحت العنوان التقليدي لما اعتدنا بتسميته بالتحديات الاقتصادية الجسيمة التي يواجهها اقتصادنا الوطني حاضراً وفي المنظور المستقبلي، لعل من أبرز تلك التحديات المطالبة الملحة بسرعة تحقيق المزيد المنجزات الفعلية، وذات القيمة على مستوى زيادة التنوع في القاعدة الإنتاجية، وأن يرتبط ذلك ببرنامج زمني واضح المعالم، يتضمن محتواه خطوات واضحة ودقيقة لما سيتم على هذا النهج، وأن توضع أيضاً أهداف قابلة للمتابعة والقياس والتدقيق والرقابة والتحقيق والمساءلة في مواجهة أية احتمالات للتأخير أو التعطيل، فما تحقق طوال 42 عاماً على هذا الطريق تحديداً، لا يكاد يذكر، بل إن بعض نتائجه جاءت مخجلة في أحيان كثيرة لعل من أهمها وأبرزها تفاقم معدلات البطالة بين الشباب لعدم قدرة أنشطة القطاع الخاص على استيعابهم، وبسبب تفشي جراثيم البيروقراطية في أغلب نواحي بيئة الاستثمار المحلية، فقد أحجمت أغلب رؤوس الأموال الوطنية عن خوض المزيد من التجارب الناجحة في تأسيس وتطوير الأعمال التجارية والصناعية والخدماتية الرائدة، التي كان يؤمل من زيادة أعدادها واستثماراتها في الاقتصاد الوطني، أن تعزز من مساهمة بدائل الإنتاج والتشغيل في ميزان الاقتصاد الوطني على حساب خفض مساهمة القطاع النفطي، الذي لا يزال الاقتصاد الكلي أسيراً أو رهيناً لسيطرة القطاع النفطي.

بالطبع سيكون لتحقق ما تقدم من ذكره أعلاه على طريق التنويع الإنتاجي العديد من المزايا التي لا يمكن حصرها ها هنا، غير أن من أهم تلك المزايا أو الإيجابيات التي سيجنيها الاقتصاد الوطني جراء ذلك، ما سيؤدي بدوره إلى خلق المزيد من فرص الاستثمار المحلية المتنوعة والمتوزعة على مختلف مناطق البلاد، حسب المزايا التنافسية لكل منطقة، والتي بدورها ستساهم في توفير مئات الآلاف من فرص العمل الكريمة للأعداد الهائلة من المواطنين والمواطنات الباحثين عنها، ويبدو أن هذين العنصرين في الوقت الراهن عبر النتائج السلبية والخطيرة لتعطلهما على مختلف المستويات في جسد الاقتصاد الوطني، بصورة أصبح يلمسها الجميع من دون استثناء في مختلف الاتجاهات، أفضت بصور مؤسفة إلى تشكل العديد من التشوهات والاختلالات بدءاً من احتقان بعض أروقة الاقتصاد (القطاع العقاري) بجزء هائل من السيولة المحلية أدى إلى تشكل فقاعات سعرية لم يسبق لها مثيل، أصبح معها من المستحيل أن يتمكن الفرد المتوسط الدخل من تملك المسكن الذي يأتي أحد أول حقوقه في وطنه، دع عنك محدودي الدخل والفقراء فهذا الأمر بالنسبة لهم مدون ذلك في اللا مفكر فيه، وامض في طريقك لترى ركام تلك السلبيات يغطي أغلب مفردات الحياة الاجتماعية والاقتصادية بضلالاته القاتمة من انخفاض الدخل، إلى ارتفاع معدلات البطالة لمستويات فاقت 33 بالمئة، وستجدها أعلى بين الشرائح الشابة، وسترتفع لما فوق 80 بالمئة بالنسبة للفتيات، ولن تستطيع إحصاء ما بين تلك التفاصيل من تشوهات خطيرة في ثنايا مقال محدود المساحة كمقالي هذا.

إن من أهم ما يجدر الإشارة إليه في سياق إعادة تأسيس العلاقة بين الميزانية والوضع الاقتصادي المحلي، هو التذكير بضرورة الالتزام بما ورد في خطة التنمية الأخيرة حول إجراءات التعامل مع الفوائض المالية الهائلة التي توافرت للبلاد، وأن تبدأ السلطات المالية والنقدية بإعادتها إلى داخل الاقتصاد الوطني، من أجل تحقيق مقتضى ما أشرت إليه، ولعل نصاً واضحاً بالحرف كما ورد في الخطة التنموية الأخيرة يؤكد بوضوح تام مشروعية هذا المطلب، إلا أن الثروة النفطية بحكم طبيعتها غير المتجددة، تعد رأسمال وطني، يتمثل استغلالها الأمثل في استثمارها في أصول متجددة تسهم في تنويع القاعدة الإنتاجية الاقتصادية وتحقق التنمية المستدامة، لذا يتعين تعزيز الموارد العامة غير النفطية للدولة بما يتيح تحويل الإيرادات النفطية تدريجياً إلى أصول إنتاجية، ورأسمال بشري فعال.

إن زيادة سعة الاقتصاد الوطني، والنجاح على هذا الطريق بخطى مأمونة العواقب، ومثمرة النتائج لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق إفساح المزيد من المجال للقطاع الخاص، القطاع الذي يؤمل من تطوره وتحسن أدائه أن يساهم بدفع معدلات النمو الاقتصادي للاستمرار والتحسن، ويحقق توطيداً أفضل وأضمن للاستقرار الاقتصادي بعيداً عن تأثير تذبذبات أسعار النفط، إضافة إلى حظوظه الأكبر في ضمان التنمية المستدامة والشاملة.

أخيراً، نؤكد أن ما سبق الحديث عنه أعلاه، وفيما سبق من نقاشات ومقالات وتقارير حولها وما يمتد إليها بصلة، ازدادت أهميته وحساسيته بدرجة تفوق الوصف، وإبراءً للذمة فقد دخلنا منعطفاً زمنياً لم يعد فيما تبقى منه ولا حتى عشره، ما يعني أننا في سباق مع الزمن إن أدركت جيداً الجهات الاقتصادية والمالية معاني ما يجري الآن على السطح المحلي والإقليمي والعالمي، فقد نستطيع النجاح وتحقيق المأمول وإن تأخر مبتغاه، وإن ظل الوضع خامداً على ما هو عليه الآن، على الرغم من ما قد بدا من سواءته البغيضة إن في التضخم، أو في البطالة، وانخفاض مستوى الدخل وانتشار تشوهات الفقر بين شرائح المجتمع، أو في انسداد الفرص الاستثمارية والوظيفية أو في استمرار اعتماد الاقتصاد المفرط على النفط كمورد وحيد له، أو فيما لم يعد خافياً حتى على غير المتخصص الاقتصادي والمالي، أؤكد إن بقي الوضع على ما هو عليه، فلا عزاء لنا أبداً وقد طارت الطيور بأرزاقها، والله المستعان فيما لو طارت وبقينا في الأراضي الجدباء نندب حظاً فاتنا، وواقعاً جديداً لا مناص من الاعتراف بأننا قد شاركنا بصناعته إما بتفريطنا وإما بأخطاء قراءاتنا وقراراتنا صغيرها وكبيرها.