اتسمت فعاليات مهرجان افتتاح الدورة العربية الثانية عشرة مساء الجمعة الماضي بدرجة فائقة من التنظيم، وتوظيف جميل للتقنيات الحديثة في مزج عناصر التاريخ والجغرافيا من أجل رسم لوحات فنية رائعة، تنسجم وتتكامل مع الحدث، وتعبر عن أهدافه ومضامينه. ولم يكن ذلك النجاح في التنظيم بغريب على دولة قطر التي برعت خلال العقد الأخير في تنظيم المهرجانات والفعاليات الرياضية، وبخاصة منذ استضافتها لفعاليات الأسياد في عام 2006. فهذا النجاح في الجانب التقني المتطور، انعكاس لاهتمام توليه القيادة القطرية لتطوير العلوم والتكنولوجيا، وقضايا الاختراع والابتكار. وقد لا يكون مصادفة أن يتزامن الحدث الرياضي الكبير هذا الأسبوع مع دعوة رسمية لصاحب السمو الأمير-وصاحبة السمو الشيخة موزة- قبل ذلك بيومين ليكون سموه ضيف الشرف على مؤتمر تركيا للابتكار، الذي انعقد في مدينة اسطنبول التركية. فإلى أي مدى وصلت قطر في هذا المجال، وما الذي تسعى لبلوغه من جراء اهتمامها البالغ بهذا الموضوع؟
إن الإجابة على هذا السؤال يقدمها حضرة صاحب السمو الأمير الذي قال في خطاب له في المؤتمر المذكور في اسطنبول: "إن الابتكار يعد جزءاً من قيمنا وثقافتنا، وهو ضرورة حيوية لا مناص منها إذا كنا نريد أن نتبوأ موقعاً في هندسة وصناعة الواقع البشري الذي نتوخاه مزدهراً ومتقدماً". وقال أيضاً: "إن الذي يمتلك زمام المعرفة هو القادر على التأثير على البشر باعتباره المتحكم في صناعة التغيير أكثر من ذاك الذي يمتلك سلطة المال والثروة". وأضاف سموه: "إن الخطوة الأولى فيما قامت به دولة قطر، تتمثل في التوسع في مراكز المعرفة والعلم- وفي مقدمة ذلك إنشاء المدينة التعليمية- وفي الاهتمام بمواقع الفكر والثقافة واكتساب المعارف والخبرات، وكان ذلك استثماراً ضرورياً في البنية الإنسانية الضرورية للتقدم". وأضاف سموه في مداخلة أثناء المؤتمر "بأن قطر خصصت 2.8 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق على متطلبات البحث العلمي، إضافة إلى تخصيص 350 مليون دولار لمشاريع ذات صلة بالابتكار داخل قطر وخارجها".
ولكي نفهم ما تشير إليه الأرقام فإن نسبة 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي تعتبر نسبة مرتفعة إذا ما قورنت بالنسب المماثلة في دول أخرى فهي لا تزيد على 1% بالمائة في أي دولة عربية، وتصل إلى 2.1% في الولايات المتحدة و2.8% في كوريا الجنوبية، ولكنها ترتفع إلى 3% في دول أخرى كاليابان وإسرائيل، وارتفاع النسبة في إسرائيل قد يكون عائداً في جزء كبير منه إلى ارتفاع مخصصات أبحاث وتطوير التقنيات العسكرية، ونظم المعلومات المتصلة بها. وبتحويل النسبة إلى رقم مطلق، فإن الإنفاق على البحث العلمي والابتكار في قطر قد يصل إلى 14 مليار ريال سنوياً، موزعة على كافة مراكز البحث والتطوير في الجامعات والمراكز المتخصصة التابعة لمؤسسة قطر للعلوم والتكنولوجيا. الجدير بالذكر أن المؤسسة لديها استثمارات تصل قيمتها إلى نحو 60 مليار دولار أو نحو 218 مليار ريال، وفق ما صرح به الدكتور فتحي سعود رئيس المؤسسة.
ولا تهدف قطر من إنفاق هذه المليارات إلى احتكار منافع التقدم العلمي لصالحها، ولكنها –وكما قال الدكتور فتحي سعود-تسعى إلى توطين ونشر ثقافة البحث العلمي في منطقة الشرق الأوسط وذلك من خلال بناء قاعدة علمية واسعة وتأهيل الكوادر البشرية القطرية والعربية في مجال العلوم الحديثة. ونتيجة لهذا التوجه البناء، فقد أصبح للمؤسسة بالفعل مجموعة من المنتجات وبراءات الاختراع، والتي تم تسجيلها بأسماء الباحثين العاملين فيها، لاسيما وأن المؤسسة تتعاون مع أكثر من 800 جهة بحثية حول العالم. وأضاف الدكتور سعود في تصريحات صحفية سابقة إن جهود المؤسسة المتنوعة التي تضطلع بها تشتمل على''منتدى البحوث السنوية لمؤسسة قطر''، و''برنامج قطر للريادة في العلوم''، بالإضافة إلى البرنامج التلفزيوني ''نجوم العلوم'' الذي يستقطب النوابغ من الوطن العربي بأسره.
ويساعد التقدم والنجاح في مجال البحث العلمي الدول العربية- وكلها دول نامية- على الانعتاق من الاعتماد على غيرها من الدول في تأمين احتياجاتها من مستلزمات الحياة الحديثة وفي إيجاد حلول خلاقة لمشاكل البيئة، وتوفير متطلبات التنمية المستدامة. وقد أصبح الاهتمام بالبحث العلمي والابتكار والتعاون بين مراكز البحث والشركات الصناعية أحد المقاييس التي يأخذها المنتدى الاقتصادي العالمي بعين الاعتبار عند تحديده للوضع التنافسي لأي بلد. ونشير بهذا الخصوص إلى أن اهتمام دولة قطر بموضوع الابتكار والبحث العلمي قد انعكس في السنوات الأخيرة بشكل إيجابي على مكانتها التنافسية بين الأمم، بحيث أنها باتت تتبوأ المركز الأول بين دول الشرق الأوسط، والمركز الرابع عشر على المستوى العالمي. ومن المتوقع أن تحقق قطر المزيد من التقدم في تقارير التنافسية في السنوات القليلة القادمة، وأن تتفوق في ذلك على كثير من الدول المتقدمة.