ما زالت تداعيات قضية الإيداعات المليونية في حسابات بعض النواب الكويتيين تتوالى فصولا. فبالاضافة إلى الجانب السياسي من القضية، يبدو أن المصرفيين لم يغمض لهم جفن بعد، منذ تفجير القبس للفضيحة قبل أقل من شهر. وتفيد مصادر مصرفية رفعية بأن الإيداعات النقدية الكبيرة من قبل السياسيين ليست بجديدة في البلاد، وعمرها ربما من عمر البنوك، لكن بلوغ هذه الإيداعات أرقاما مليونية، وبالتالي ظهور القضية على العلن من خلال الإعلام، شكل صدمة لجميع البنوك والجهات الرقابية المعنية من دون استثناء، كما خلق حالة استنفار لدى المصرفيين. إذ تؤكد المصادر أن جميع البنوك لجأت بعد الفضحية، إلى استنهاض فرق عملها، للبحث والتحري عن جميع حسابات السياسيين وغير السياسيين، ومراجعة جميع الإيداعات النقدية فيها، رجوعا إلى ما يقارب سنة كاملة إلى الوراء، وليس أشهرا فقط. وفي حال لم يجد المصرفيون تبريرات مقنعة لأيّ من الإيداعات الضخمة، يدرسون كل حالة على حدة تمهيدا لإحالتها إلى النيابة العامة. فـ«خير أن يأتي الاشتباه متأخرا، من ألا يأتي أبدا»، وفق مصدر مصرفي رفيع. ويصف هذا المصدر ما أقدمت عليه القبس من نشر، بمكانة رمي حجر كبير في بئر هادئ، مضيفا أن التداعيات قد تستمر فصولا، في حال لم تتم طمطمة الموضوع. كما تشير المصادر إلى حركة أسئلة واستفسارات تشهدها البنوك هذه الايام، وتعاميم لكل الفروع برفع درجة اليقظة.
العملاء فئات
وتوضح المصادر المصرفية المتقاطعة أن أغلب أعضاء مجلس الأمة وكذلك الوزراء لديهم حسابات في أكثر من مصرف، ويعمل اليوم طاقم كل بنك على دراسة احتمال الشبهات في الإيداعات النقدية التي يفوق حجمها 3000 دينار، كما يشير إليه قانون مكافحة غسل الأموال لعام 2002. وتشرح الأوساط المصرفية المعنية أن العملاء بشكل عام يُقسّمون إلى فئات وفق القدرة المالية لكل عميل. ويأتي النواب عادة في فئة الميسورين وبعضهم في فئة الأثرياء، وتتراوح حسابات أغلبهم بين 100 ألف دينار وصولا إلى الملايين. لذا يُسمح لهؤلاء ولأقاربهم من الفئة الأولى بإيداع مبالغ نقدية كبيرة. فوفق القانون المذكور والمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال، يُفترض على كل مصرفي يتلقى مبالغ مالية نقدية على الكاونتر يفوق حجمها 3000 دينار، ولو بدينار واحد، سؤال المودع عن مصدرها. وإذا اقتنع المصرفي بالجواب، يكمل العملية المصرفية. وفي حال كان المبلغ كبيرا، ولم يبرر مصدره صاحبه، يطلب المصرفي أوراقا تثبت نظافة الأموال ومصدرها. وإذا لم يقتنع المصرفي، يمكنه قبول الإيداع وإحالة الحساب إلى النيابة العامة مع تقرير اشتباه بغسل أموال، أو يمكنه رفض إيداع المبلغ بكل بساطة.
دور «المركزي»
إذن تبدأ عملية مكافحة غسل الأموال من كاونتر المصرفي أولا، وصولا إلى مكتب النائب العام. لكن ما دور بنك الكويت المركزي في العملية؟ تشير الأوساط المصرفية إلى أن للبنوك الدور الأبرز في مكافحة الإيداعات المشبوهة وملاحقتها قضائيا، لكن للبنك المركزي دورا أساسيا أيضا. وتشرح المصادر المصرفية هذا الدور بنقطتين جوهريتين:
أولا، وفق التعليمات والإجراءات المتبعة، ترسل جميع المصارف يوميا تقريرا مفصلا الى البنك المركزي بكل الإيداعات النقدية التي يفوق حجمها 3000 دينار، حتى لو برر العملاء مصادرها. وتتضمن هذه الكشوفات المبالغ المودعة، والرقم السري للعميل، وفرع البنك والوقت. فبوفق الأطر التنظيمية، قد يكون العميل مالكا لأكثر من حساب في أكثر من مصرف، ويعمد على إيداع مبالغ صغيرة، لكن أكبر من 3000 دينار، في كل حساب، يوميا أو دوريا. وما من طريقة لرصده إلا عبر الكشوفات الآتية من البنوك، والتي تصب في نهاية المطاف لدى البنك المركزي، لجمعها وملاحظتها. لكن الأوساط المصرفية تلقي الضوء هنا على قضية لافتة، إذ تكشف أن تقارير الإيداعات اليومية التي يطلبها المركزي، ما زالت تسلّم ورقيا لا الكترونيا، كما يقتضي عصر التطور والتكنولوجيا اليوم. وهذه الكشوفات الورقية لا تدخل في نظام آلي، بل يكتفي عدد من موظفي البنك المركزي في الإطلاع عليها، والكشف يدويا عن أي شبهات قد يلاحظها. وتقول المصادر المصرفية: صحيح أن البنوك هي المعنية في الاشتباه بعمليات الغش وغسل الأموال والفساد في الإيداعات النقدية، لكن البنك المركزي هو الرقيب على القطاع، الذي يتمتع بنظرة شاملة عن الإيداعات الكاش يوميا في جميع المصارف. ويحق لـ «المركزي» بحكم صلاحياته السؤال عن أي اشتباه.
ثانيا، يُعتبر البنك المركزي المسؤول الأكبر في وحدة التحريات المالية التي تأسست في عام 2005، وفق مرسوم صادر عن مجلس الوزراء. فوفق تقرير صندوق النقد الدولي الأخير، يترأس وحدة التحريات المالية محافظ بنك الكويت المركزي، ويتألف فريق عملها من 15 فردا، 4 منهم يمثلون وزارة التجارة ووزارة الداخلية ووزارة العدل والإدارة العامة للجمارك، والبقية موظفون لدى البنك المركزي. ومن مهام وحدة التحريات هذه، مساعدة النيابة العامة في التحقيق والتحري عن شبهات غسل الأموال، عبر تكليف مباشر من مكتب النائب العام نفسه. وتقول مصادر مصرفية في هذا الإطار: جرت العادة في الكويت أن تقوم البنوك، التي ترصد تحويلات مالية مشبوهة، أن ترفع تقريرا بالاشتباه إلى النيابة العامة، وكذلك إلى البنك المركزي بصفته، ولو أن ذلك غير مذكور في قانون عام 2002. فيكون «المركزي» على اطلاع دائم على كل ما يجري في القطاع.
وتعليقا على دور «المركزي» في مكافحة غسل الأموال والفساد المالي، ترى مصادر مصرفية أنه يُبعد نفسه، معللا ذلك بمواد قانون 2002. ويلفت هؤلاء إلى أن صندوق النقد الدولي لم يلق الضوء على أوجه قصور مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب من فراغ. فهو يستقي معلوماته من البنك المركزي والمصارف والجهات المختصة محليا، ويحللها مقارنة مع المعايير المتبعة دوليا. ولولا وجود خلل حقيقي في الإجراءات المتبعة، خصوصا على صعيد الأجهزة الرسمية، لما تطرق صندوق النقد الدولي لذلك أصلا.
اقتراحات جديدة
وفي سياق متصل، تضع الأوساط المصرفية بعض الاقتراحات لتشديد مكافحة غسل الأموال والحد من الفساد والرشوة وتمويل الإرهاب، وذلك بالإضافة إلى توصيات صندوق النقد الدولي في هذا المجال:
1 - إقرار قانون عصري تتوافق مواده مع المعايير الدولية، يتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ليتضمن كيفية محاربة تجارة الإقامات والكحول والمخدرات والأسلحة، بالإضافة إلى الرشى السياسية إذا أمكن ذلك!
2 - إقرار قانون كشف الذمم المالية للسياسيين، وتطبيق مبدأ «من أين لك هذا؟»، ودعم مشروع هيئة مكافحة الفساد.
3 - تغليظ العقوبات في هذا المجال.
4 - تعزيز دور وحدة التحريات المالية وصلاحياتها، ومدها بالطاقم الضروري والأدوات اللازمة للقيام بدورها على أكمل وجه.
5 - توفير الأدوات اللازمة لبنك الكويت المركزي في هذا المجال، بما فيها وضع نظام آلي لرصد الإيداعات الكبيرة، وزيادة عدد وعديد المتخصصين والمتدربين على مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في «المركزي».
6 - زيادة دورات تدريب موظفي المصارف والمؤسسات المالية المحلية والأجنبية العاملة في الكويت على مكافحة المعاملات المشبوهة.
إلى ذلك، لم تخف المصادر المصرفية مخاوفها من تداعيات هذه الأزمة الحالية على سمعة القطاع المصرفي والمالي، خصوصا أن جريمة غسل الأموال هي أسوأ ما يمكن اتهام بنك به. ومن هنا، تطالب المصادر الجهات الرقابية والتنظيمية المعنية بإيلاء الموضوع أقصى اهتماماتها، وعدم دفن رأسها بالرمل عبر الاكتفاء بردود انشائية تنشرها الصحف، خصوصا أن القضية تؤرق كبار التنفذيين في البنوك، منذ أن أثارتها القبس في 20 اغسطس الماضي.