كشفت الأزمة الاقتصادية الحالية وما تبعها من أحداث حقيقة الاقتصاد وطبيعته التي أقل ما يقال عنها أنها "هشة"، كما كشفت في المقابل عن المقومات الفعلية للاقتصاد وركائزه الصلبة التي قد تتأثر ولكن لا تزول بفعل العوامل المؤثرة، كما حدث في هذه الأزمة التي نعيش واقعها المرير، حيثُ أن التوازن الاقتصادي فُقد بعامل الهوس المادي والتوجه الرأسمالي الذي لم يبقي للاقتصاد ولم يذر، حتى أنك تختال ما حدث بفعل الأزمة وما تبعها من أضرار بأنه مشهد سينمائي من الفلم الشهير " The End of the World 2012".
في الحقيقة لم يكن الاقتصاد كما يجب أن يكون, ولم يكن بالقوة التي كنا نعتقدها، وذلك من خلال المعطيات والأرقام المبالغ فيها إن لم تكن وهمية من الأصل, والتي تم تسويقها من خلال قنوات مختلفة لم تسلم حتى هي من وطأة الأزمة؛ ولعلي أكون من المنصفين في هذا المقام رغم مرارة الحقيقة وقسوتها على المترقبين لما بعد المرحلة الحالية. وأقول وبصدق أعطت المؤشرات السياسية والاحتقانات الاجتماعية والاضطرابات الاقتصادية في العالم دلائل منطقية يمكن أن يستقرأ منها حقيقة المستقبل الاقتصادي بالرغم من عدم وجود مبدأ الشفافية والإفصاح المفترض من قبل المؤسسات والوزارات المالية والاقتصادية في العالم أجمع, حيثُ أن غياب تلك الأرقام والحقائق الواقعية والمنطقية والتي كانت من الممكن أن تكشف حقيقة الأزمة قبل وقوعها أسهمت في إيغار الجرح واتساع حجم الأزمة وغياب الخلل الفعلي الذي بمثابة الداء ليغيب معها الدواء .
وقعت الأزمة ولازال الخطر قائم بوجود الثقافة السادية الرأسمالية للاقتصاد , والتي تحمل رايتها تلك الدول العظمى المتقدمة , وكانت بمثابة رأس الحربة في ميدان الأزمة بالرغم أن الأنظار والتوقعات كانت تتجه نحو أزمة اقتصادية بفعل الكوارث الطبيعية , وذلك بعد التقارير التي كشفت عن حجم الكارثة المتوقعة جراء التغيرات المناخية وظاهرة الاحتباس الحراري , ولكن جرت الرياح بما لا تدركه العقول ؛ وكما ذكرت سالفاً فإن الخطر لازال قائم وذلك بوجود الثقافة المسبقة ، والعقلية المهوسه بالثراء السريع , وغياب التوازن الاقتصادي المحلي والدولي وخاصة لتلك الدول القيادية بل إن الأزمة ازدادت عمقا بسبب استثمار "الورق في الورق" دون وجود الملاءة المناسبة والداعمة لها , وكان من باب أولاء استثمار المال في الأصول قصيرة الأجل لتنشط الحركة الاستهلاكية وتحقق الإنتعاش الإقتصادي أو الاستثمار في الصناعات أو حتى في البشر أنفسهم لتأمين مستقبلهم وجعلهم قادرين على الإنتاج والإبداع ومواجهة تحديات المستقبل عند "نضوب الطاقة" كما يقول أهل الاختصاص في ذلك , حيث أن الورق يفتقد قيمة الفعلية وإن أنتفخ بفعل المضاربة ما لم يُدعّم ويعزز بالذهب أو الصناعة أو الاستثمار في الأصول ذات القيمة الفعلية , وما لم يتم تدويره في إطار متكامل ليحقق المنفعة الاقتصادية لكل أطياف المجتمع , وما لم توكل الأمور إلى أهلها باستقلالية تامة وشفافية مطلقة ورقابة دائمة ومحاسبة صارمة وكل ذلك لا يمكن بوجود العقلية الامبريالية التوسعية والتي يسيطر عليها ثلة من الأشخاص وبعض المؤسسات المالية والشركات الضخمة والتي لا ترى ولا تعمل إلى بمنظور الاسترقاق الاقتصادي والبشري وقد حان لهذا العهد أن يحط رحاله لينتهي دون عوده ما لم تعالج الأسباب والمسببات.
إن العالم يحتاج إلى "خارطة طريق" اقتصادية تعاد من خلالها صياغة النظام الاقتصادي العالمي ليكون مبني على أسس صحيحة وحقائق مادية ملموسة , وأن تقوض الأسباب والمسببات التي تؤدي إلى الجشع والمبنية على الظلم وإلحاق الضرر بصغار المستثمرين، فضلاً عن الفقراء والمساكين وذلك من منطلق إنساني لتتسع دائرة المنفعة والمشاركة التي لا تتوقف عند حدود إيديولوجية أو تبريرات سياسية , وأن يعمل العالم على الحفاظ على البيئة والسعي إلى معالجة كل ماله دور في إحداث التلوث وطمس للطبيعة لتبقى الموارد الطبيعية والتي تمثل الواجهة الاقتصادية لكل دولة متجددة ومستمرة , وغير ذلك من العوامل المهمة والمساعدة على تحقيق مفهوم الاستمرارية والاستقرار الاقتصادي. قال الكاتب الأميركي روبرت صاموئيلسون "إن القبضة الخانقة للركود الاقتصادي الأخير هي الأشد والأشمل من بين أزمات اقتصادية سابقة في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية" وقال "أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة نالت بمخالبها مناحي متعددة في المجتمع الأميركي حتى أنها لم تبقِ غنيًا أو فقيرًا إلا وتركت لمساتها في حياته، وأنها شملت جميع فئات المجتمع الأميركي بشكل أو بآخر عن طريق فقدان الوظائف وتقليص قيمة السندات والأوراق التجارية وإحداث تآكل في حجم توفير المتقاعدين والتسبب في عودة كبار الأبناء إلى أحضان والديهم من جديد، وإثارة القلق إزاء جميع أوجه النشاط في البلاد". وقل مثل ذلك ما شئت أن تقول لتلك الدول المباشرة للأزمة والغير مباشره لها , وذلك بفعل إقحام السياسة بصورة سيئة في الاقتصاد، و محاولة فرض السيطرة الاقتصادية بمخالب السياسة والتي كانت في الحقيقة بمثابة معول الهدم لتلك الشجرة اليافعة والثمار اليانعة والتي أتت أكلها بفعل التطور الصناعي والتقني لتقطفها أيادي الجشع دون رحمة .
كما ذكرت بأننا لازلنا نعيش تحت وطأة الأزمة ؛ قاتمة الرؤية ؛ مطموسة المعالم , وذلك بسبب غياب الحقائق والمعلومات الفعلية التي يمكن من خلالها استقراء وتحديد نقطة النهاية لها مما جعل العالم في حال أشبه ما كان عليه بني إسرائيل في التيه , وهنا في الحقيقة يتساءل الكثير عن المخرج من هذه الأزمة وكيف ومتى سينتهي هذا الكابوس. في اعتقادي الوجل أن حجم الكارثة المخفية في طيات الفناء الاقتصادي أكبر بكثير من الظاهر والمعلن عنه فحينما تتحدث عن خسارة الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها لأكثر من 4 تريليون دولار حتى الآن ولازالت الأزمة وسلسلة الانهيارات مستمرة على قدم وساق فإنك يجب أن تدرك حقيقةً أن الأزمة أكبر مما هو معلن عنها , و أننا نحتاج إلى مهارة في فهم طريقة وطبيعة إدارة الأزمات لتفادي الوقوع من جديد في براثين الأزمة الحالية وما سوف يتبعها , ومعرفة الفرص البديلة والفرص المتاحة , ولعلنا نشهد في هذه الفترة كيف أن العالم بداء يتجه للاستثمار في المعدن الأصفر "الذهب" رغم خطورة ذلك على الاقتصاد ؛ نظراً لكون الذهب من الثروات الجامدة التي لا تساعد في تحريك الدورة الاقتصادية لعدم التعامل بها في البيع والشراء كمنتج استهلاكي أو خدماتي وخاصة حينما يكون الاستثمار من محدودي الدخل والذين سوف يدفعون بكل أموالهم للاستثمار بها في المعدن النفيس , وكذلك خطر على المستثمرين أنفسهم لغياب المعلومة الفعلية لحجم الأزمة الاقتصادية والتي كانت السبب الرئيس مع المسببات الأخرى في تصاعد سعر الذهب إلى أرقام قياسية لم يسبق أن لامستها، مع الأخذ بالاعتبار أن الذهب تضاعف سعره أربع مرات خلال العقد المنصرم مما يجعل الخيار الأمثل لكبار المستثمرين هو جني الأرباح والتحول إلى فرص جديدة , ولستُ هنا في الحقيقة لأُنفر من الاستثمار في الذهب بقدر ما أحذر من سياسة التدافع بدون أخذ الحيطة و الحذر وخاصة في هذه الفترة القاتمة ولو عدنا إلى الخلف قليلاً مابين عام 1980 و 2000 لرأينا كيف أن الذهب قد فقد قيمته الاستثمارية بسبب الازدهار الاقتصادي والتطور التقني والصناعي وكان مجدياً فقط من الناحية التصنيعية ؛ فالاستثمار في الذهب وغيره يتطلب معرفة عميقة لتاريخ النشاط المستثمر فيه وحركته الاقتصادية وفرصه المستقبلية، وهل الاستثمار في الوقت الراهن مجدي من الناحية الاستثمارية أم أنه لتأمين رؤوس الأموال فقط في ظل عدم الاستقرار الاقتصادي وذلك بفعل التضخم أو الانكماش , في اعتقادي المتواضع أن الاستثمار حالياً في الذهب مجدي لشريحة الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة , وذلك لما يتمتعون به من فائض يمكن استثماره على المدى الطويل وتأمينه لمواجهة تحديات المستقبل بالرغم من تقلبات الأسعار التي قد تطرأ على المعدن نفسه , لذا تكون الخطورة أكبر على مستوى الطبقة المتوسطة وما دونها والتي لا تملك إلا أن تنكب بثقلها في هذا الاستثمار وخاصة في ظل الأسعار الحالية دون وعي كما حدث في تسونامي أسواق الأسهم في السنوات القليلة الماضية.
إن من الأعباء التي تواجه النمو الاقتصادي واستقراره وخاصة في دول الشرق الأوسط غياب الثقافة والمعرفة الاقتصادية مما جعل البعض يختزل الاقتصاد وتحقيق مفهوم الثراء في جانب دون أخر ؛ فحينما تحدث الاقتصاديون عن الثورة الاقتصادية التي ستكون بفعل المؤسسات المالية والشركات التجارية والاستثمارات الأجنبية وغيرها من القطاعات في الخليج والشرق الأوسط والتي تحمل رؤية مستقبلية ومشاركة اقتصادية مدعومة مالياً ومعنوياً من الأنظمة التي تدفع الناس إلى الأسواق المالية ليجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه ؛ كما أن الصورة لا تختلف كثيراً في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية عن الصورة السابقة والتي تعكس في الواقع حجم الكارثة وتدافع المحللون والاقتصاديون في تقديم الآراء والتوقعات مع التركيز على أن الذهب هو الملاذ الآمن في ظل الأزمات على وجه العموم , وهنا الإشكال حيث أن المختصون غالباً ما يتحدثون من خلال الوسائل المختلفة بمنطق علمي وأسلوب يفتقر إلى التفصيل ولم يراعى من خلاله عقول الشريحة العظمى ممن يجهلون كثيراً من المصطلحات الاقتصادية فضلاً عن الاقتصاد نفسه , وكان من باب أولى توجيه القوة البشرية والمحركة فعلياً للاقتصاد إلى الاستهلاك بأسلوب يبعث لهم الاطمئنان، ليبقى الاقتصاد في وضعه الصحي ويكون للدورة الاقتصادية استمرارية يتم تصحيح تلك الأسباب التي أدت إلى الأزمة من خلالها، كما أن تعقيد اجراء الأقتراض وتحول أسلوب تعامل البنوك والمؤسسات المالية مع العملاء ساهم في بث الرعب وخلق توجس مريب أدى إلى سحب رؤوس أموال كبيرة من هذه الجهات واستثماراها في الذهب والعقارات. إن هذه الأعباء وغيرها من المسببات التي كانت بمثابة "الوقد على النار" أثبتت مدى التخبط وعدم وجود التنظيم الحقيقي للاقتصاد العالمي وعدم وجود آليات يمكن التعامل معها وتسيير الاقتصاد من خلالها في هذه الظروف وهنا يطرح سؤال مهم جداً ومن المؤكد أن الجواب أهم .. هل منظمة التجارة العالمية ورجال اتفاقية الـ GATS والدول المشاركة قد أوجدت مسبقاً آليات واجراءات لسيطرة على مثل هذه الآزمات؟
باختصار شديد، إن الاقتصاد العالمي في أسوء أوضاعه وسيزداد سوءً مع "التفائل الشديد" لغياب الشفافية وتعطيل الأدوات الفعلية والمحركة للاقتصاد كما أن الثقة باتت معدومة للآسف.
سبق وان اجريت استفتاء على موقع "SodaHead" لقياس مدى صحة ما يشاع عبر وسائل الأعلام وعن انتهاء الأزمة وعودة الثقة من جديد للمستهلك فكان السؤال: هل تعتقد بأن الأزمة المالية انتهت؟
فكانت الإجابات كالتالي:
نعم: 0% لا: 80% ربما: 20%
الاخ نايف ال خليفه اشكرك على المقال الرائع ولكن امل الاجابة على السؤال التالي هل تنبأ الاقتصاديون قبل 25 سنه بما سيؤل اليه الوضح حاليا بمعنى هل علم الاقتصاد ومبادئه السائده قبل 25 سنه علم يشخص ويضع الاسس ويستطيع ان يعرف ويحدد الاثار المترتبه في حال مخالفة تلك الاسس وماهي الاسس التي ادت اختلت وادت الى هذه الاحداث لتوضيح اكثر المحاسبه لديها مبادي ونظريات في حال مخالفة اي منها يعرف المحاسب مصير الشركه او البنك اما الخساره او الافلاس المهندس المعماري يضع شروط انشائيه علميه وعند مخالفتها يعرف ماسيؤل اليه المبنى او المشروع تهالك او سقوط فهل علم الاقتصاد استطاع ذلك؟
بارك الله فيك أخي نايف ومقال جميل ورائع المستقبل علمه عند الله ،،،، لكن ما يدعونا لعد التفاؤل هو طريقة المعالجة للاختلالات السابقه فالمعالجة للازمة الاقتصادية في عام 2008 كانت خاطئة صحيح ساهمت في تعافي الاقتصاد بشكل بسيط لكنها حلول مؤقته وقد نرى أزمات أخرى حتى يتم تصحيح الوضع الاقتصادي بشكل كامل ..... يمكن يكون العقد القادم مرحلة ركود للاقتصاد العالمي بعد أن كان العقد سابق منتعشا
اكبر خطأ ارتكبه العالم انه حاول انعاش الاقتصاد و اخر عملية الانهيار ... الافضل هو البدء من الصفر وعدم اعطاء ابر حافزه و حاقنه و منعشه ... و الجسد اساسا ينخر فيه الضعف .... المسؤلين الاقتصادين و الوزراء هم شركاء في الجريمة لانهم ساعدوا في ابطاء الحل ... بواسطه انعاش الاقتصاد ! حيثيات الاسواق تقول يجب ترك كل شئ للدورة الاقتصادية بدون تدخل جراحي مشوه !
الكل يتكلم عن الاقتصاد العالمي كمنظومة، نحن بحاجة لمقالات تخدمنا نحن الافراد ماهي افضل الحلول بالنسبة لنا؟ تسييل المحافظ و الاحتفاظ بالنقد هل هو الافضل؟ ام البقاء في الأسهم؟ ام العقار؟ نريد حلول عملية تفيدنا نحن القراء. الا اذا كان لا يوجد مفر من التأثر بالدمار المتوقع؟ لكن اللي أنا اعرفه انه في شيء اسمه تعامل مع الأزمات فيه اسماء تختفي و اسماء تطلع وش اللي يفرق بينهم؟
الأخوة الاعزاء .. اشكر لكم تفاعلكم واعتذر عن التأخر في الرد نظراً لضغوط العمل والسفر وسوف اجيب على مشاركاتكم حال عودتي بإذن الله. تحياتي