تتنوع التأثيرات الاقتصادية للأحداث السياسية والاجتماعية التي تمر بها المنطقة العربية بشكل سيؤدي خلال العام الحالي والعام المقبل إلى افتراق منحنى النمو الاقتصادي والمؤشرات الاقتصادية الكلية ومستوى الرفاه الاجتماعي إلى منحنيين أحدهما يخص الدول النفطية والآخر يخص الدول غير النفطية في العالم العربي. فالأحداث الجارية أدت إلى تبعات اقتصادية بدأت في الظهور في الدول غير النفطية تمثلت في تراجع النمو الاقتصادي بسبب تأثر القطاعات الحيوية التي تعتمد عليها كالاستثمار الأجنبي المباشر، السياحة، الخدمات المالية، تحويلات العمالة من الخارج، قطاعات الشركات والتجزئة ومعظم القطاع الخدمي والتجاري المحلي.
فالاستثمار الأجنبي الذي تعتمد عليه الدول العربية غير النفطية طبيعته الحساسية والتأثر بأي مؤشرات قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات المخاطرة بشقيها السياسي والاقتصادي وتهديد عناصر الإنتاج من رأسمال وعمالة ومدخلات إنتاج وطرق توزيع قد تتأثر نتيجة لتباطؤ الوصول إلى الأسواق وارتفاع تكلفة التأمين والنقل للمنتجات النهائية، خصوصاً أن الأحداث السياسية الإقليمية تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي تكلفة النقل والتأمين ضد مخاطر الشحن. فالدافع الأساسي للمستثمر الأجنبي لكي ينتقل إلى إحدى الدول هو أن يستفيد من ميزات القرب من السوق وتقليل التكاليف الكلية ورفع هامش الربح ليس إلا، فإذا اختلت هذه المعادلة فسيعيد المستثمر الأجنبي حساباته تجاه المنطقة ككل ويعيد توجيه استثماراته لدولة أخرى ضمن المنطقة أو يقوم بالتصدير للأسواق المعتادة باستخدام عملياته في مناطق أخرى.
أما القطاع السياحي الذي يعتمد عليه الكثير من الدول العربية غير النفطية فهو أكثر حساسية للاضطرابات السياسية والاجتماعية من الاستثمار الأجنبي، حيث إن قرار السياحة من عدمه لا يعتمد على أي استثمارات رأسمالية وخطط بعيدة المدى بل يعتمد على قرار السياح أفراداً كانوا أو مجموعات للتعرف على حضارات أخرى أو مناطق سياحية وشواطئ وصحاري مختلفة. وحال القطاع السياحي للدول غير النفطية كحال الاستثمار الأجنبي المباشر من ناحية اعتباره أحد المصادر الرئيسة للعملة الأجنبية التي تسهم في التحكم في السياسة النقدية وهيكل التجارة الخارجية والصحة العامة للحساب الجاري.
وبالنسبة للخدمات المالية التي تخصصت فيها بعض الدول العربية غير النفطية فقد كانت إسهاماتها في النمو الاقتصادي تبرز في قدرتها على بناء الكفاءات والقدرات للموارد البشرية ومساهمة الفائض بالتأثير في القطاعات الأخرى من خلال توفير الائتمان والنصح والإرشاد لعمليات الدمج والاستحواذ وتنمية رأس المال الجريء وتنمية أسواق المال المحلية. وجل ما تحتاجه الخدمات المالية للتركز في أي مركز مالي هو الأنظمة والقوانين الحمائية، وحرية التنقل، والقدرة على توفير التقنية والموارد البشرية الكفؤة التي من الممكن استقدامها من أي مكان في العالم. لذا، ففي أوقات الأزمات، ليس من السهل الحفاظ على استقرار وبقاء قطاع الخدمات المالية، خصوصاً أن الانتقال إلى أي مركز مالي منافس لا يحتاج إلا إلى نقل العاملين وقواعد البيانات والأنظمة الإلكترونية إلى موقع مالي جديد، وهو أمر قد يتم بين ليلة وضحاها. وهنا، قد أرى أن المركز المالي في دبي قد يكون من أكبر المستفيدين من الأوضاع الراهنة نظراً لتمتعه بالبيئة المناسبة كالخيار النموذجي للمؤسسات المالية كمركز مالي إقليمي لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وبتناول تحويلات العمالة من الخارج وتأثر قطاعات الشركات والتجزئة ومعظم القطاع الخدمي والتجاري المحلي، فإن الدول العربية غير النفطية تعتمد بشكل كبير على تحويلات عمالتها الموجودة خارج دولها. وفي خضم الأحداث الجارية قد تقل هذه التحويلات نظراً لتأثر القطاع المالي والمصرفي في الدول المستقبلة للتحويلات أو بسبب تحوط العمالة في الخارج من تحويل الأموال إلى دولها في ظل الظروف الحالية وحالة عدم التأكد. أما القطاع التجاري والخدمي المحلي فيتأثر سلباً نتيجة لتراجع الطلب الكلي المحلي كردة فعل طبيعية للأفراد تجاه حالة عدم التأكد وارتفاع مخاطر تبديد المدخرات في الاستهلاك بجانب ارتفاع مخاطر الاستثمار وتراجع الجدوى على المديين القصير والمتوسط.
أما بالنسبة للدول العربية النفطية، فإن ارتفاع أسعار النفط الذي أحد أسبابه الأحداث في المنطقة العربية بجانب إنفاقها على الحزم الاقتصادية والاجتماعية التنموية، من المتوقع لها أن تؤدي إلى تحفيز النمو الاقتصادي بشكل كبير نظراً لارتفاع الاستهلاك النهائي الخاص واستمرار الإنفاق العام على البنى التحتية والمشاريع الاجتماعية، إضافة إلى تأثير الفائض الذي قد ينتج عن ارتفاع ثقة المستهلك وقطاع الأعمال في آفاق النمو الاقتصادي. ومن أهم القطاعات التي اضطلعت بدعمها معظم الدول العربية النفطية هو القطاع العقاري الذي يأتي كحل لمشكلة الإسكان مما يزيد التوقعات في النمو الاقتصادي المدفوع بقطاعات تتمتع بفائض في القدرة الإنتاجية نظراً للطلب الكبير والقدرة على تلبيته من ناحية العرض حين يتوافر رأس المال. ولكن، يظل التحدي أمام الدول العربية النفطية في مواجهة النمو الاقتصادي هو القدرة على التحكم في المستوى العام للأسعار باستخدام مختلف الأدوات النقدية والمالية والنظامية.
وختاماً، سيشهد العام الحالي والعام المقبل تفاوتاً في النمو بين الدول العربية النفطية وغير النفطية، مما يحتم تكاتف الجهود والتعاون بينها ومساندة الأولى للأخيرة اقتصادياً للنهوض باقتصادها والسير في التنمية الاقتصادية العربية جنباً إلى جنب، خصوصاً أن التعاون الاقتصادي والنمو الجماعي سيسد أي ثغرة قد ينفذ منها الآخرون وسيشكل سياجاً اقتصادياً حصيناً يشكل مناعة داخلية وتكاملاً سيسمو بين الأمم في الأعوام القادمة.