أسر كارثية 3

26/02/2011 4
د.محمد إبراهيم السقا

يبدو أن قائمة مقالاتي التي تحمل هذا العنوان سوف تطول، رغم محاولاتي تجنب أن ينحرف اهتمامي عن مجالي الرئيس؛ الاقتصاد، إلا أنه يبدو من الصعب جدا ان يحصر الفرد اهتمامه بتخصصه الرئيس في ظل الأحداث السريعة التي تطرأ بصورة شبه يومية على الساحة العربية مما يجعل السياسة تطغي على كتابات الجميع.

تناولت في الحلقة الأولى من هذه السلسلة أسرة "سونغ" في كوريا الشمالية، وفي الحلقة الثانية أسرة الرئيس المخلوع "مبارك" في مصر. أسرة اليوم هي أسرة العقيد "معمر القذافي"، رب هذه الأسرة شخصية معقدة للغاية يصعب على أعتي علماء النفس ان يصفوا لنا كم التناقضات التي تعيش في داخله، ولذلك اتسمت فترة حكمه لليبيا بالتقلبات الشديدة، حيث خاضت ليبيا العديد من المعارك مع دول كثيرة في العالم منها الولايات المتحدة، في مسعى حثيث لأن يجد القذافي لليبيا موطئ قدم على الساحة الدولية، على الرغم من أنه كان من الممكن أن تكون كذلك ولكن ليس بتلك السياسات التي اتبعها العقيد.

ولد "الأخ العقيد" كما "يدعي أنه يحب أن ينادى" في يوم أسود من أيام يونيو 1942، في إحدى قرى سرت تسمى قرية جهنم، في اسرة متواضعة، حيث كانت أسرته تعمل في الزراعة، والتحق بالكلية العسكرية ليتخرج برتبة ملازم ثم أوفد إلى بريطانيا حيث تخرج في الأكاديمية الملكية العسكرية. في أول سبتمبر 1969، قام ألقذافي بقيادة انقلاب عسكري ضد ملك ليبيا السابق وأزاحه عن العرش، وهو ما لاقى ترحيبا كبيرا في الشارع العربي في ذلك الوقت، ولكن الشارع العربي لم يكن قد تعرف بعد على الصورة الحقيقية للرجل، وطالما تحدث ألقذافي مفتخرا بأن الرئيس عبد الناصر قال له "إنه يرى فيه شبابه".

منذ مجيء العقيد القذافي إلى الحكم لم يسلم أي من جيرانه من بأسه، بل ولم تسلم القوى الدولية من تبعات طموحاته، وإن كان دفع ثمن الأخير غاليا بعد ذلك، فقد حاول زعزعة نظام الحكم في مصر وتونس والسودان وتشاد والمغرب، كما حاول اغتيال العشرات من الشخصيات السياسية والصحافيين، ولكنه في كل مرة كان يعود ليعلن عن أسفه، الأمر الذي جعل نظام ألقذافي أكثر النظم السياسية في العالم إثارة للجدل، وعبر تاريخه الطويل كان ديدنه في كل ما يقوم به من تصرفات هو "خالف تعرف".

لإثبات انه مختلف، لم يرض الرجل بأن تسمى بلده بما عرفت به تاريخيا، فكيف تحمل ليبيا هذا الاسم البسيط المكون من خمس أحرف فقط؟ وهو الذي صنع ثورة التي لم ير العالم مثلها، ولا حتى الثورة الفرنسية، ولذلك لم يرض الرجل بأقل من أن يطلق على دولته تسمية "الجماهيرية العربية الليبية الديمقراطية العظمى" وهو أطول اسم رسمي لدولة في العالم، كما أنها الدولة الثانية التي تحمل رسميا اسم "العظمى" في العصر الحديث بعد "بريطانيا العظمى". أن تحمل بريطانيا هذه التسمية في مرحلة تاريخية معينة، كان له ما يبرره، حيث كانت الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس في ذلك الوقت، غير أنها لم تعد تحمل الآن هذا الاسم بعد أن توقفت الشمس عن السطوع على هذه الدولة، ولكن دولة الفاتح القائد الفذ ليست أقل من بريطانيا العظمى ومن ثم لا بد وأن تحمل هذه الصفة، ولا أدري لماذا؟، هذا طبعا لا ينفي أن لنا في ليبيا إخوان لا يمكن أن نصفهم بأقل من عبارة عظماء، منهم المجاهد الكبير عمر المختار وأعوانه وهؤلاء الثوار الذين يقفون في وجهه اليوم، ولكن بالتأكيد ليس منهم رب أسرة اليوم.

أنفق القذافي من أموال الشعب الليبي الكثير لكي يحصل رسميا في عام 2008، على لقب "ملك ملوك إفريقيا"، باعتراف أكثر من 200 ملك إفريقي وقائد في هذه القارة، بعد أن فتح خزائنه بلا حدود لكي يحصل على هذا اللقب، ومن المؤكد انه كان مستعدا لكي ينفق آخر دولار من ثروات الشعب الليبي لكي يحصل على لقب "ملك ملوك العالم".

اعتاد القذافي أن يخاطب الشعب الليبي على أنه هو الذي صنع ليبيا، وقاد أعظم ثورات التاريخ، وصد عن ليبيا أعظم المؤامرات في التاريخ، ومنها هجوم السادات عليه في 1977، بعد أن حاول القذافي التحرش بالقوات المسلحة المصرية عبر الحدود مع ليبيا، وقد كان من الممكن للسادات في هذا الوقت تطويق ليبيا في عدة أيام، لولا أن الظروف الدولية لم تكن تسمح له بذلك، كما أنه هو الذي صد الهجوم الجوي الأمريكي ضد ليبيا، مع أن الأخ العقيد نجا من القصف لأنه كان يعيش مع الجرذان تحت الأرض في ذلك الوقت، إلا أنه للأسف خرج على شعبه ليوهمه بأنه هو بطل الصمود، وأنه هو الذي بنى ليبيا، كأنه بناها من الثروات الهائلة التي تركها له أبوه قبل أن يموت، وليس من أموال الشعب الليبي الذي يقيم على أرض توجد بها بحيرات نفطية من أجود أنواع النفط الخام في العالم. عبارة واحدة أعتقد أن القذافي لم يقلها بعد لشعبه المسكين وهي "أنا ربكم الأعلى".

مثل كل الأسر الكارثية في العالم لم تنس الأسرة أن تؤمن نفسها ماليا بثروات تكفي الأسرة لعشرات الأجيال القادمة في المستقبل، من المصادر الحرام للأسف الشديد. تقديرات ثروة الأسرة متعددة ومتناقضة، فالبعض يرى أن ثروة أسرة القذافي ربما تبلغ 60 مليار يورو ( http://bit.ly/dJoxCV )، بينما تشير التقارير الأمريكية بأنه ثروته ربما تصل إلى 130 مليار دولارا، ( http://www.alarabiya.net/articles/2011/02/24/139061.html )، انظر أيضا هذا التقرير المصور (http://www.youtube.com/watch?v=8HUFPEs-Z3w)، وبغض النظر عن مدى دقة هذه التقديرات من عدمه، فإن هناك تقارير مؤكدة عن وجود استثمارات ضخمة للأسرة في مجالات متعددة منها العقارات والاتصالات وقطاع المال والصناعة في أنحاء متعددة من العالم.

لم تنج أسرة العقيد من التسريبات التي نشرها موقع ويكيليكس، حيث وصف القذافي بأنه رجل زئبقي وغريب الأطوار، وبأنه يعتبر نفسه فيلسوفا، وبأنه قادر على تقديم الحلول الناجعة لهذا العالم، ومنها مقترحه العبقري بإنشاء دولة "اسراطين" لحل مشكلة الشرق الأوسط، والذي نسف به تاريخه الذي ادعى فيه أنه كان يكافح فيه الصهيونية والامبريالية العالمية. كما كشفت الوثائق عن أن أبناء القذافي والمقربين منه يحصلون على تدفقات دخليه من شركة النفط الوطنية ومن فروع الشركات النفطية في ليبيا. كذلك كشفت الوثائق على أن الصعود الصاروخي لسيف الإسلام أحدث شرخا في الأسرة وجلب حقد الأخوة الآخرين عليه.

فقد أشارت وثائق ويكيليكس أن ابن القذافي "معتصم" الذي يشغل وظيفة المستشار الأمني لوالده، طلب 1.2 مليار دولارا من مدير الشركة الليبية الوطنية للنفط وذلك لإنشاء ميليشيا خاصة به، حتى يتساوى مع آخيه خميس، الذي يقود هو الآخر ميليشيا لحماية النظام، كذلك أشارت الوثائق إلى أن معتصم أقام حفلات صاخبة في جزر الكاريبي حيث قام عدة مغنيين عالميين مثل Usher و Beyonce و Mariah Care بالغناء في تلك الحفلات، وقد أشارت الوثائق إلى أن "ماريا كاري" قد حصلت من معتصم على مليون دولار في مقابل 4 أغان فقط (ربع مليون دولارا للأغنية الواحدة)، من المؤكد ان من يتصرف على هذا النحو يرتكز على ثروة طائلة.

كذلك ألقى البوليس السويسري القبض على "حنبعل" ابن القذافي بتهمة ضرب خادماته، وكذلك في أحد فنادق لندن بتهمة ضرب صديقته (والتي أصبحت زوجته الآن). أما الساعدي فقد ألقي القبض عليه عدة مرات في أوروبا، بصفة خاصة ايطاليا بتهم تعاطي المخدرات والسكر الشديد وإقامة الحفلات الصاخبة، ربما يكون الساعدي هو من يقصد معمر القذافي في حديثه عن الشعب الليبي بأنه يتعاطى حبوب الهلوسة وبأنه سكران. الساعدي لاعب كرة سابق، حيث لعب في فريق Perugia في ايطاليا، وهو يملك واحدا من أكبر نوادي الكرة في ليبيا وكذلك شركة الإنتاج الأفلام السينمائية.

يقال أن أفضل أبناء القذافي سلوكا هو ابنه الثاني سيف الإسلام، والذي أطلق عليه لاحقا صفة "أمل ليبيا" وأيضا "سيف الأحلام"، حيث كان يعد لكي يحكم ليبيا، وقد كان الكثير من الليبيين ينظرون إلى سيف الإسلام على أنه وريث عرش القذافي. غير أن وثائق الويكليكس قد أشارت أيضا إلى أن الرجل لا يبدو أنه ملتزم كما يوصف، فهو مستمر في إقامة حفلاته، وفي صحبة النساء.

وأخيرا تشير الوثائق إلى أن عائشة القذافي تهتم بقطاع الطاقة والبناء، بينما يهتم محمد، الابن الأكبر، بقطاع الاتصالات وخدمات الانترنت. من ناحية أخرى أشارت أيضا الفاينانشيال تايمز أن اهتمامات أسرة القذافي في مجال الأعمال تشمل قطاعات النفط والغاز، والاتصالات والبنى التحتية، والفنادق ووسائل الإعلام والسلع الاستهلاكية.

طرأت على بال القذافي في وقت من الأوقات فكرة ان يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وبدأ بالفعل برنامجا للتسلح النووي، غير أنه في عام 2003، وبعد سقوط نظام صدام حسين، رأى القذافي بأم عينه ما جرى لصدام حسين تحت دعوى أنه يملك أسلحة دمار شامل. في هذه اللحظة الزمنية بالذات ظهرت شجاعة القذافي الحقيقية التي طالما ادعاها، فأعلن عن تخليه عن برنامجه النووي، ووافق على دفع تعويضات أسطورية لضحايا الطائرة التي سقطت على منطقة الليكربي التي اتهم من قبل بإسقاطها، وأعلن عن استعداده للتعاون مع الغرب بالكامل فيما يطلب منه من مهام، وهدأت ثورة القائد الفاتح وتحول إلى "عميل أليف" تثني عليه الحكومات التي طالما وصفها بالامبريالية العالمية، وبأنه أصبح حليفا مهما في الحرب على الإرهاب، وفي عام 2008 قامت كونداليسا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية بزيارة ليبيا لأول مرة منذ 1953، بعدها خرج الزعيم بفكرته العبقرية عن حل النزاع العربي الإسرائيلي من خلال إنشاء "اسراطين".

هذا الشهر بدأ العد التنازلي لعهد "القذافي"، حيث هب الشعب الليبي ليقول للقذافي لقد اكتفينا من مغامراتك، وآن لك ان ترحل مثل غيرك إلى مزبلة التاريخ. كغيره من الديكتاتوريين كان القذافي يخاطب العالم مركزا على أن البديل له سوف يكون المتطرفين الاسلاميين، وأن سقوطه سوف يعني تحول ليبيا إلى امارات اسلامية، وأن ما يحدث في ليبيا هو من تخطيط أسامة بن لادن، الذي يوزع حبوب الهلوسة على الثائرين من الشعب الليبي السكارى ... إلى آخر هذه العبارات التي تعكس احتقارا شديدا للشعب الليبي البطل. ولأن الرجل ما زال يعيش في أوهامه، وبأنه يرى نفسه زعيما متفردا، ولا يمكن ان يسقط مثلما سقط بن علي ومبارك من قبل، فإنه يعلن دائما ويكرر أنه سيقاتل حتى آخر قطرة دم، كما يحاول إثارة النعرات القبلية، ويعلن عن استعداده لتسليح القبائل لكي تكافح جرذان الثوار، رغبة منه في مقاومة الثوار بواسطة عناصر من الشعب الليبي، بعد أن أدرك ان خطته باستئجار مرتزقة من الخارج، ربما ينظر إليها على أنها عمل من أعمال الحرب وقد تجر القذافي للمحاكمة أمام محكمة العدل الدولية.

ليس لدي شك في أن العد التنازلي لنهاية القذافي قد بدأ بالفعل، وأن الأمر هو مجرد مسألة وقت قبل أن تشهد أعيننا "إن أحيانا الله"، نهاية هذا الطاغية. إنها مجرد لحظات زمنية قبل أن نرى القذافي وثورته وأسرته في مزبلة التاريخ.