تطرقت في مقال سابق («لتحقيق أهدافك المالية: الاستثمار هو الفرع.. أما الادخار فهو الأصل» المنشور في 05/07/2009م) لأهمية الادخار في تحقيق الأهداف المالية للفرد. كما تحدثت في المقال الذي يليه («مفتاح الادخار الناجح: ادفع لنفسك أولاً» المنشور في 12/07/2009م) لأفضل الطرق للادخار، وهي طريقة الاقتطاع المباشر من الدخل الشهري. ومن أبرز التعليقات والملاحظات التي وردت على نصائحي تلك هو ما ذكره القارئ الكريم (أبو محمد): «.. لكن الشخص ما إن يجد وفراً حتى يبدأ التفكير في شراء سيارة جديدة أو صيانة المنزل وتأثيثه أو السفر للخارج.. ثم فجأة يجد أن ادخاره قد تآكل ليبدأ في الادخار من جديد..». ولعل بإمكان كثير من القراء التعاطف مع أبو محمد والإحساس بمعاناته. فكم مرة قلنا لنفسنا فيها إننا سنبدأ بالادخار للمدى الطويل، فما يلبث أن يأتي علينا مصروف غير متوقع فينسف كل ما ادخرناه لنبدأ الكرّة من جديد.
في هذا الصدد أرى أن المشكلة ليست في الادخار في حد ذاته، بل في التفرقة بين الأهداف المالية القصيرة المدى والأهداف الطويلة المدى وفي الموازنة بينهما بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى. فالأهداف المالية القصيرة المدى هي التي تنوي تحقيقها عبر السنة المقبلة أو نحوها. وهي في العادة تأخذ أحد أشكال ثلاثة:
• الالتزامات المالية المعلومة وغير المتكررة التي قد لا يتطابق جدولها مع دخلك الشهري (كأقساط المدارس، وإيجار المنزل... إلخ). وبالرغم من أن هذه تعد التزامات ثابتة، إلا أن الشخص ينبغي أن يدخر من دخله الشهري ليتمكن من أدائها عند حلول أجلها.
• المصاريف المتوقعة وغير المتكررة (كالمبالغ المخصصة لشراء جوّال جديد، أو سيارة جديدة، أو لصيانة المنزل، أو للإجازات السنوية، أو هدية زواج مقبل لأحد الأقرباء... إلخ).
• المصروفات الطارئة وغير المتوقعة (كإصلاح السيارة لدى تعطلها، أو استبدال المكيف إذا تلف... إلخ).
أما الأهداف الطويلة المدى فهي التي تمتد عادة لما فوق سنة، وعادة ما تتطلب مبالغ مالية أكبر. وهي التي تتمحور حول الأهداف المالية الكبرى في حياة الشخص (كشراء المنزل، أو الزواج، أو إرسال الأبناء للدراسة الجامعية، أو بدء مشروع تجاري، أو التقاعد، أو تحقيق الاستقلال المادي وراحة البال... إلخ).
لذا ونظراً للاختلاف الكبير بين الأهداف القصيرة المدى والأهداف الطويلة المدى فإن أفضل طريقة للموازنة بينهما تكون باتباع الخطوات التالية:
• الفصل بين المبالغ المخصصة للأهداف القصيرة المدى عن تلك المخصصة للأهداف الطويلة المدى. وكلما كان الفصل صريحاً، كان الأمر أسهل للفرد، بل إن أنجح الناس يقومون بإيداع كل مبلغ في حساب مستقل، لكيلا يتعدى الصرف في أحدهما على الآخر. وفي جميع الأحوال ينبغي ألا تصرف على الأهداف القصيرة المدى من المدخرات الطويلة المدى، لأن ذلك يقلل احتمالات النجاح في تحقيق أهدافك الطويلة المدى. لذا ينبغي لكل فرد مقاومة الرغبة الغريزية في تقديم الأولويات القصيرة المدى على الأهداف الطويلة المدى. فإذا قمت بصرف مدخراتك المخصصة للمدى القصير قُبَيل رحلة الصيف مع العائلة، فيجب عليك إلغاء الرحلة، ولو كان لديك مدخرات كافية للمدى الطويل، وكذلك الحال لو كنت ترغب في جوال جديد. ولا تبرر لنفسك بأنك فقط ستقترض هذه الأموال بصفة مؤقتة من خطتك طويلة الأجل ومن ثم ستعيدها لاحقاً، فإن وعودنا لأنفسنا في هذا الصدد هي في العادة وعود خاوية، مما سيقلل من قدرتك على تحقيق أهدافك طويلة الأجل.
• لا تصرف على الأهداف القصيرة المدى قبل الادخار لها أولاً، لأن القاعدة العامة هي أن ندخر أولاً ثم نصرف، وليس العكس فعليك أن تتجنب الاقتراض لتحقيق الأهداف القصيرة المدى (خاصة الكمالية منها)، لأن ذلك قد يحملك مبالغ طائلة من الأرباح والعمولات البنكية. أما إذا قدّمت الادخار على الصرف فيمكنك توفير مبالغ العمولات والفوائد واستغلالها واستثمارها بدلاً من التنازل بها لبنكك. والأمر يزداد أهمية بالنسبة لبطاقات الائتمان لأن العمولات والفوائد عليها عالية جداً مما يضاعف خسارتك من الصرف قبل الادخار. بالطبع لكل قاعدة شواذ (وخصوصاً في حالات الضرورة القصوى)، ولكن ينبغي التضييق فيما يتم اعتباره ضرورة قصوى. أما في حالة الأهداف الطويلة المدى، فلا بأس من الاقتراض لتحقيقها نظراً لأنها غير متكررة، ولأنها عادة مرتبطة باكتساب أصل ثابت (كما في حالة شراء منزل).
• ينبغي أن تنتهج استراتيجية استثمارية مختلفة للمبالغ المخصصة للأهداف القصيرة المدة عن تلك المخصصة للأهداف الطويلة المدى فالقاعدة العامة أن المبالغ المدّخرة للأهداف القصيرة المدى يجب أن يتم استثمارها في وسائل استثمارية منخفضة المخاطر (كعقود المرابحة أو صناديق المرابحة أو النقد)، لأن المرء سيحتاج إلى هذه المدخرات بعد وقت زمني قصير (أي أقل من سنة)، وأي خسارة تلحق بها خلال السنة قد تؤثر جذرياً في المستوى المعيشي (كعدم التمكن من دفع إيجار السكن) فالفئات الاستثمارية العالية المخاطر (كالأسهم) تتّسم بقدر عالٍ من التذبذب على المدى القصير. وإذا استثمرت مدخرات الخطة قصيرة الأجل في الأسهم فهناك احتمال واقعي أن تكون قيمتها أقل من سعر شرائها وقت حاجتك لها، مما قد يعرضك لضائقة مالية، خصوصاً إذا كنت تحتاج إلى المبلغ لأغراض ضرورية (كسداد إيجار المنزل). أما في الخطط الطويلة الأجل فهناك متسع أكثر من الوقت مما يقل معه احتمال نقصان القيمة في آخر الفترة عن القيمة في أولها. وهذا الاحتمال يقل كلما طال الأفق الاستثماري، مما يمكن المرء من تحمل مزيد من المخاطر في سبيل تحقيق الأهداف الطويلة المدى.
Great article